لم يكن مفاجئاً للسوريين أن تُتهم سوريا باغتيال الوزير الفقيد المغدور بيار الجميل، وكنت من موقع المواطن السوري أضع يدي على قلبي منذ أن انطلقت التكهنات المتتالية من البيت الأبيض قبل أسبوعين بتوقع أن تقوم سوريا وإيران بانقلاب في لبنان (على حد تعبير جون بولتون)، قلت في نفسي: الله يحمينا ويحمي لبنان مما يخططون لحدوثه، ولاسيما بعد النجاحات الدبلوماسية التي حققتها سوريا، وبعد أن بدأ تحرك أوروبي لفتح آفاق جديدة للحوار معها، ولبدء سياسة أوروبية جديدة ساهم في إطلاقها كما يبدو السيد بلير الذي تعرض لانتقاد شديد من الصحافة الموالية لإسرائيل بسبب التفاتته التي وصفتها الكاتبة برونين مادوكس في "التايمز" بأنها "سخية أكثر من اللازم نحو سوريا". وبعد أن بدأ تحرك أوروبي إيجابي نحو تجديد رؤية للسلام الشامل مستمدة من المبادرة العربية للسلام، ويمكن أن نسميها رؤية السيدين "ثباتيرو" و"موراتينوس". وبعد سلسلة من تصريحات قادة أوروبيين دعوا إلى معاودة الانفتاح على سوريا، وبعد إخفاق مريع لطاقم "المحافظين الجدد" في انتخابات الكونجرس، وبدء انهيار عصبة متعهدي الحروب بسقوط رامسفيلد، وبعد الصيحات العاقلة التي ضجت بها الصحافة الأميركية وهي تدعو قادة البيت الأبيض إلى إيقاف نهر الدم في العراق، وتعترف بإخفاق الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب الذي ازداد بدل أن يتوقف، وتدعو إلى مراجعة شاملة لسياسة الولايات المتحدة ضد العرب والمسلمين، وإلى معاودة الحوار مع سوريا منبهة إلى استحالة تجاهلها. وقد أدرك أعداء سوريا وأعداء المقاومة الوطنية أن الحرب التي خاضتها إسرائيل بدعم أميركي ضد لبنان في الصيف الماضي لم تحقق أهدافها باجتثاث المقاومة ونزع سلاحها كما كانوا يحلمون، بل جعلت موقف المقاومة أقوى وأشد، وقد تعاطف معها كل الشرفاء في العالم وأعجبوا بأدائها وصبرها وبسالتها في صدِّ العدوان وبالتفاف الشعب اللبناني حولها بكل شرائحه وطوائفه وفئاته، ولم تجنِ إسرائيل من الحرب سوى الهزيمة وترسيخ سمعتها البشعة أمام الرأي العام الدولي بوصفها دولة إرهابية لا تتقن غير القتل وهدم المدن وإلقاء أطنان من القنابل والصواريخ على الآمنين. وكان بدهياً أن تتابع إسرائيل حربها على لبنان بأشكال أخرى بعد انتهاء الحرب المباشرة، وأهم أهدافها أن توقع لبنان في حرب أهلية كي تحقق عبر دم اللبنانيين ما عجز جيشها عن تحقيقه، ولم يكن سراً تدفق أسلحة من إسرائيل لمجموعات عملائها الجاهزين الذين جندتهم منذ عقود كي يكونوا ذراعها الضارب لأي توجه وطني عروبي في لبنان. وهؤلاء يحقدون على المقاومة وعلى "حزب الله" وعلى سوريا بخاصة لأن دخولها إلى لبنان أفشل حلمهم بتقسيمه، وكانوا يحلمون عبر الحرب الأهلية التي دمروا فيها لبنان عقوداً بأن يقيموا دولاً طائفية صغيرة تقودها إسرائيل يصبحون فيها رؤساء وقادة ويتاح لهم إطلاق أحقادهم المترسِّخة في وجدانهم المريض. ولست بحاجة لأن أسمي أحداً منهم لأنهم مشاهير وتاريخهم معروف لا يجهله أحد من اللبنانيين، وقد ازداد حقدهم على سوريا لأنها تدعم المقاومة التي تقض مضجع صديقتهم إسرائيل، ولقد كنت أخشى وقوع كارثة جديدة مع تصاعد النجاح السياسي الذي حققته سوريا عبر زيارة وزير الخارجية السيد وليد المعلم إلى العراق، الأمر الذي يقلق الإسرائيليين وأنصارهم، فهم يريدون إشعال الحرائق بين أقطار الوطن العربي وبخاصة بين سوريا ولبنان وبين سوريا والعراق، ويفزعهم أن يروا سوريا والعراق تتجهان إلى الوفاق بعد ربع قرن من القطيعة. والمفارقة أن أشهر صحيفة بريطانية معروفة بولائها لإسرائيل علقت على جريمة بيار بقولها "إن على بلير فصيح الكلام ألا يتصور بأن الحوار يؤتي أكله دائماً، وأنه إذا توافق العراق مع سوريا فإن ذلك قد يخدم مصالحه، ما حدث بالأمس يظهر درجة العدوانية التي تضمرها سوريا" وهذا التعليق يكشف أن التهمة جاهزة لسوريا بل هي في نظر أنصار إسرائيل حكم مُبرم غير قابل للنقض، ولا يحتاج إلى أدلة. ولعل بعضهم خشي أن يكون الصمت السوري وعدم الالتفات إلى الضجيج المفتعل ضدها في لبنان والسفر إلى العراق بحكمة ورؤية سورية استراتيجية يعني إدارة الظهر لخصومها في لبنان، ولاسيما بعد أن اعتذرت سوريا عن التدخل في أي شأن لبناني داخلي بعد أن خرجت بآخر من بقي من جنودها في لبنان بعد سلسلة انسحابات طوعية مبرمجة، وقد كان تنفيذها للقرار الدولي سريعاً لأنها كانت تتابع خطتها للخروج من لبنان بعد أن ساهمت مع أبنائه الشرفاء بإعادة سيادته واستقلاله وأسهمت في بناء جيشه ودولته، بل وفي تنميته، وتقوية بنيته التحتية، وكان وما يزال كل ما تريده سوريا من لبنان أن يكون قوياً منيعاً ضد الاختراقات الصهيونية التي تريد تقسيمه وتفتيته طائفياً. ولئن كان مرتكبو جريمة اغتيال الشهيد الحريري قد نجحوا إلى وقت قصير في زعزعة العلاقة بين سوريا ولبنان، فإن الشعب اللبناني عبَّر عن موقف أصيل حين وجد أمنه وطمأنينته في سوريا حين وقعت الحرب الأخيرة. ويبدو أن الموقف الأخوي بامتياز، الذي عبر عنه الشعبان في شهر "الوعد الصادق" قد أثار مزيداً من الحقد لدى أنصار إسرائيل في لبنان، وقد رأوا أن سلسلة الاغتيالات التي ارتكبوها على مدى عام ونيف واتهموا بها سوريا لم تحقق مآربهم في قطع الصلة الحميمة بين الشعبين والبلدين، بل إن الصلات لم تنقطع حتى على الصعيد الرسمي، ولم يصل التحقيق في جريمة اغتيال الشهيد الحريري مع كل ما رافقه من ضجيج إعلامي إبان فترة ميليس إلى أي شبهة ضد سوريا، فكل ما كان من اتهامات لا تعدو كونها تمثيلية رديئة التأليف، وقد تابع المحقق "براميتز" مهمة التحقيق بصمت وإتقان، فلم يعجبهم أنه لم يصل إلى ما يريدونه، وقد بات بعضهم يلحُّ على إحالة القضية إلى محكمة دولية قبل الوصول إلى أدلة قاطعة بالاتهام، كي يجد وسائل للضغط على سوريا، وكي يطول أمد القضية ويبقى المتهمون بلا أدلة في السجون. ولقد كان بدهياً أن يربط المحللون بين توقيت اغتيال الجميَّل وبين موعد انعقاد مجلس الأمن لبحث قضية المحكمة قبل انتهاء التحقيق، كما ربطوا من قبل بين توقيت اغتيال الشهيد جبران تويني وبين انعقاد مجلس الأمن من أجل تقرير "براميتز"، وفي التوقيتين تحقق الجريمة هدفاً واضحاً بفضل حملات إعلامية مكثفة توجه الاتهام سريعاً ضد سوريا لخلق رأي عام ضدها دولياً، ولخلق حالة عاطفية تؤثر على مواقف الدول أثناء المناقشة. هل خشيَ المجرمون من أن يُنهي الاحتكام السلمي إلى الشارع في لبنان مخططاتهم في جعل لبنان واقعاً تحت الوصاية الأجنبية مهدداً بالانقسام والحرب الأهلية، ومطالباً رسمياً بالقضاء على المقاومة، فسارعوا إلى إهراق الدم في الشارع في وضح النهار؟ وهل خشيَ أعداء سوريا من وفاق عربي جديد بدأت تبشر به الوقائع فسارعوا إلى إشعال الفتنة؟ أرجو أن تتمكن السلطة في لبنان من كشف المجرمين، ولاسيما أنهم لم يكونوا مُلثمين أو متسترين، فتنكشف عصابة القتل والفتنة في لبنان، وكان الله في عون سوريا التي تكسَّرت النصال فيها على النصال، وباتت دريئة لكل هدف أعمى، والسر في ذلك مكشوف. ولسوف تبقى سوريا في دائرة الاتهام والتهديد والضغوط لأنها ترفض التنازل عن حق الأمة في مقاومة الاحتلال والتسلط على السيادة العربية، ولأنها أسهمت علانية في تحقيق انتصار المقاومة على إسرائيل، ولأنها مصرة على حقوقها وحقوق الشعب الفلسطيني، ولأنها لم تقبل ولن تقبل أن تمضي في ركب المتخاذلين الذين يتاجرون بدم الشرفاء والشهداء.