ينظر الأطباء إلى دراسة صحة المجتمع (Population Health)، على أنها المجال المعني بتحسين المقاييس والمعايير الصحية لجميع أفراد المجتمع. وهذا يعني أن مفهوم صحة المجتمع، هو في أساسه نوع من الاتجاه نحو تخطي حيز الاهتمام بالمشاكل الصحية الفردية، والتعامل بشكل أوسع مع القضايا والظروف العامة التي تؤثر سلباً على الصحة العامة، كالعوامل البيئية، والتركيبة الاجتماعية، والعدالة في توزيع المصادر المالية والصحية المتاحة. هذا العامل الأخير، يجعل من العمل باتجاه خفض الفروقات الاقتصادية، وطمس مظاهر انعدام المساواة الصحية والطبية بين جميع فئات المجتمع، أحد أهم التدابير الأساسية نحو تحقيق صحة أفضل للجميع. ورغم أنه من المبادئ المعروفة أن الفقر يؤدي إلى المرض، وأن المرض يؤدي إلى الفقر، فالجديد هو أن الصحة تؤدي إلى الثراء. أي أن الاستثمار في الصحة، لا يدرأ شبح الفقر فقط، بل يؤدي إلى الثراء، وربما أحياناً الثراء الفاحش أيضاً. هذه هي النتيجة التي توصل إليها تقرير اقتصادي، صدر مؤخراً عن المفوضية الأوروبية للاقتصاد والصحة (Commission on Macroeconomics and Health)، ونشر ملخصه في العدد الأخير في الدورية الطبية الشهير (BMJ). وتبدأ قصة هذا التقرير قبل خمسة أعوام مضت، عندما نشرت المفوضية دراسة مهمة، أظهرت بشكل جلي أن المرض والمشاكل الصحية، يلعبان دوراً مهماً في الضعف الشديد الذي يميز النمو الاقتصادي في الدول الفقيرة. وخلصت الدراسة إلى أن الاستثمارات البسيطة في بعض الخدمات الصحية الأساسية، تؤدي بالتبعية إلى زيادة ملحوظة في معدلات النمو الاقتصادي. ورغم أهمية هذه الدراسة، ومنطقية نتائجها، إلا أنه عابها تركيزها على الدول الفقيرة فقط، عند تحليل العلاقة بين الظروف الصحية ومقومات النمو الاقتصادي. ومثل هذه العلاقة، تأخذ شكلاً آخر، ومنحنى مختلفاً، عند تحليل مقوماتها في ظل الظروف الاقتصادية التي تتمتع بها الدول الغنية، وهي الظروف المختلفة جزئياً وكلياً عن مثيلتها في الدول الفقيرة. ففي الدول الفقيرة، والتي يعتمد اقتصادها إلى حد كبير على الأعمال البدنية الشاقة، مثل الزراعة والتعدين، يصبح من الواضح التأثير السلبي لتدهور صحة أفراد المجتمع على مجمل الناتج الاقتصادي. هذا بالإضافة إلى أنه في الدول الفقيرة، يمكن تحسين معايير ومقاييس صحة المجتمع من خلال إجراءات وتدابير بسيطة، مثل برامج التطعيم، وسياسات دعم الأدوية الأساسية، وهو الوضع المختلف كلياً في الدول الغنية، حيث تحتاج مجتمعات تلك الدول إلى تدابير ووسائل أكثر تكلفة وتعقيداً، للتعامل مع نوعية الأمراض المزمنة وغير المعدية التي تصيب أفرادها. هذه الفروقات، تتطلب دراسة وتحليل العلاقة بين المعايير الصحية وبين مستويات الأداء الاقتصادي، ليس في أوروبا فقط، وإنما في بقية الدول الغنية مثل دول الخليج العربي، وفي جميع الدول التي تسعى إلى التحول إلى أنماط اقتصادية حديثة، مبنية على المعرفة والتكنولوجيا المتقدمة. ويمكن إرجاع التأثير الإيجابي للأشخاص الأصحاء على مؤشرات النمو الاقتصادي، من خلال أربع طرق رئيسية. أولاً: هؤلاء الأشخاص يصبحون أكثر إنتاجية مساهمين بذلك في زيادة الإنتاجية الكلية، وقادرين على الحصول على دخل أعلى، مما يعينهم على تكوين ثروات شخصية أكبر. ثانياً: يقضي هؤلاء الأشخاص أياماً أكثر في العمل، نتيجة انخفاض غيابهم لأسباب مرضية. كما أنهم يقضون سنوات أطول ضمن قوة العمل، حيث لا يضطرون للتقاعد المبكر نتيجة أسباب صحية. ثالثاً: يميل هؤلاء الأشخاص للاستثمار بشكل أكبر في تعليمهم وتدريبهم، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى زيادة إنتاجيتهم. رابعاً: كنتيجة لزيادة متوسط العمر، يسعى الأشخاص الأصحاء إلى الادخار بنسبة أكبر من مداخيلهم، تحسباً لسنوات العمر بعد التقاعد. هذه المدخرات تصبح متوفرة للاستثمار في الاقتصاد مرة أخرى، مما يرفع من مؤشرات الأداء الاقتصادي العام. وإن كان ليس من السهل والمباشر، التأكيد على أن هذه الطرق الأربع تؤدي بالفعل إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وإذا ما كانت فما هو حجم الدور الحقيقي الذي تلعبه. ففي المملكة المتحدة مثلاً، يقدر البعض بأن النمو الاقتصادي الهائل الذي شهدته البلاد في الفترة ما بين عام 1790 وعام 1980، يعود 30% منه إلى تحسن نوعية الغذاء وارتفاع مستويات الصحة العامة بين البريطانيين خلال تلك الفترة. وفي دراسة أخرى، صدرت قبل خمسة أعوام ونشرت في إحدى الدوريات المتخصصة في التاريخ الاقتصادي (Journal of Economic History)، عزا الباحثون 30% من مجمل النمو الاقتصادي في عشر من الدول الصناعية الكبرى خلال القرن الماضي، إلى ارتفاع مماثل في صحة أفراد شعوب تلك الدول خلال نفس الفترة. وبغض النظر عن الطرق والأساليب، التي يؤدي بها ارتفاع المعايير الصحية لأفراد المجتمع إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادي، تظل الحقيقة الأساسية هي أن العلاقة بين الصحة والثراء -في الدول الفقيرة والغنية على حد سواء- علاقة إيجابية. وهو ما يضع على عاتق الحكومات الساعية إلى تحقيق مستويات رفاهية أعلى لشعوبها، مهمة الاستثمار في صحة المجتمع ككل، والعمل على خفض العوامل البيئية والنفسية والاجتماعية التي تؤثر سلباً على صحة أفراده، كوسيلة أكيدة نحو رفع مجمل المؤشرات الاقتصادية الإيجابية. د. أكمل عبد الحكيم