يبدو أن الصمت على ممارسات بعض الصحف التجارية الصادرة باللغة الإنجليزية داخل الدولة، قد أغراها بالتمادي في سياسة "التأليب" والعبث باستقرار المجتمع، وكذلك مواصلة اختراق المنظومة القيمية والأخلاقية السائدة، بعد أن نجحت من قبل في تمرير عشرات الأخبار والمقالات والآراء التي يمكن لأي مراقب موضوعي فهم أهدافها وأغراضها الماسَّة بالأمن والاستقرار الاجتماعي داخل الدولة. وقعت صحيفة "سفن دايز"، خلال يومين فقط، في تجاوزين مهنيين فادحين تناولتهما أقلام بعض الأعمدة الصحفية. الحالة الأولى في التجاوز تحدث عنها، أمس، عمود "دبابيس" في صحيفة "الاتحاد" وأشار فيها إلى تلاعب الصحيفة بمضمون الحديث الذي أدلى به صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة "حفظه الله ورعاه" إلى صحيفة "الشرق الأوسط"، حيث قالت "سفن دايز" في المانشيت الرئيسي لها: "رئيس الدولة يؤكد إحلال العنصر المواطن بدلاً من العمالة الأجنبية لتعديل التركيبة السكانية". وصياغة المانشيت بهذه الطريقة قد يبدو للبعض عادياً ولا يحمل أي مفاجآت، ولكن يمكن لأي متابع للصحيفة ويقف على طبيعة قرّائها ويفهم سياساتها التحريرية، أن يدرك بسهولة أن صياغة العنوان بهذه الطريقة هي صياغة موجَّهة تحريرياً لشريحة معيّنة من الجمهور بهدف تأليبهم على سياسات الدولة، ولا شيء يمكن فهمه في المسألة بخلاف ذلك، ولاسيّما في ظل التجارب التي راكمتها الصحيفة مع متابعيها من تربّص بسياسات التوطين واستعداء للقرّاء ضد أي خطوة رسمية تتخذ على صعيد توفير فرص عمل للمواطنين، فضلاً عن أن الصحيفة قد تعمَّدت فيما يبدو إضافة بعض "التوابل الصحفية" إلى تصريحات سموه بشكل يخدم هدفها الخفي ولا يمت بصلة إلى مضمون التصريحات وفحواها ولا إلى ما عبَّر عنه صاحب السمو رئيس الدولة في تصريحاته أيضاً بشأن حقوق الإنسان ومراعاة حقوق العمالة وإشادة سموه بأجواء الانفتاح التي اعتبرها سموه إضافة نوعية مفيدة للثقافة والهوية الوطنية. أما حالة التجاوز الثانية فقد تناولها أحد الأعمدة بصحيفة "البيان" على مدار اليومين الماضيين مشيراً إلى تقرير نشرته "سفن دايز" مؤخراً تحت عنوان "هل تودين المشاركة في مدرسة للمرأة اللعوب"، وواضح بالطبع من العنوان أن التقرير يروِّج لنوعية ثقافة معيّنة تتصادم مع القيم السائدة في المجتمع الإماراتي، بل ونقلت الصحيفة عن إحدى السيدات اللاتي يعتزمن إنشاء "جمعية" للنساء "اللعوبات" في الدولة، قولها إنها تود لو أن نساء الإمارات ينظرن إلى كلمة "لعوب" باعتبارها "شارة فخر واعتزاز"! وبالطبع لم تقصِّر الصحيفة في استغلال موضوع التقرير وطرحت على قرّائها تساؤلات لإبداء الرأي في هذا التوجّه ومدى فائدته للنساء "الطموحات". الصحيفة لمن لا يعرف توزّع مجانياً وتطبع نحو 75 ألف نسخة يومياً بحسب مسؤوليها، وتقدّم نفسها باعتبارها الصحيفة الأولى من نوعها في الإمارات والشرق الأوسط، ويبدو أنها قادرة على زيادة معدلات توزيعها وحجم انتشارها وأعداد قرّائها بشكل مطّرد لأنها بالطبع مجانية ولأنها تكثف جهودها من أجل الوصول إلى أبعد نقاط ممكنة في التوزيع أيضاً، ومن هنا تأتي خطورة تبنّي الصحيفة لهكذا توجّه تحريري. المشكلة بالطبع ليست في تجاوزات هذه الصحيفة أو غيرها فقط، بل في تأثير هذه التجاوزات في الاستقرار الأمني والاجتماعي، وفي خطر تأليب العمالة الوافدة على مواطني الدولة وتغذية ثقافة الحقد، بحيث تصبح قابلة للاشتعال والانفجار في لحظة يصعب التنبؤ بها وبعواقبها الوخيمة. بصراحة لا أحد يدعو إلى لجم حرية الصحافة أو الحدّ من حريّات التعبير، بل إننا، وتسبقنا في ذلك قيادات الدولة، من دعاة حريّة الرأي باعتبار الصحافة ضمير المجتمع ومرآته التي تعكس السلبيات وتدفع باتجاه الشفافية والقضاء على أي ممارسات قد تقوّض النجاح التنموي، ولا نودّ أن نتبوأ كرسي المحاضر أيضاً ونلقي بخطب وتنظيرات حول الحدود المنهجية الفارقة بين الحرية والمسؤولية، ولكننا بصدد حقيقة واقعة وحالات تجاوز ملموسة يصعب القفز عليها أو غضُّ الطرف عنها. نفهم أو نتفهّم أن تلبِّي الصحيفة احتياجات قرّائها، ويفهم الكثيرون غيرنا دور الإعلام في تشكيل توجّهات الجمهور أو الرأي العام، ولكن عندما تتبنَّى الصحيفة "أجندة" خاصة وتتبع بالإجمال نهجاً تحريرياً يصبّ في خانة معيّنة، فإن الأمر يستحق وقفة، فنحن لا نطالب بمجاملة الدولة وأجهزتها وسياساتها، ولكننا بالمقابل نرفض التخلِّي عن الموضوعية والصدقية والحرية المسؤولة، ونعارض استغلال أجواء التسامح لتحقيق أهداف غير معلومة، فهناك قواعد معروفة تحكم مهنية الصحافة المسؤولة، أما بخلاف ذلك فيتحوَّل الإعلام إلى فوضى وممارسات عشوائية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.