شدتني عبارات بعينها في الخطاب الذي ألقته سيجولين رويال، إثر ترشحها لخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2007، عن الحزب "الاشتراكي" الفرنسي. فقد وردت في خطابها عبارات مثل "لا تخافوا" التي عادة ما تستخدم في المواساة وتخفيف وقع الألم على الإنسان، إلا أنها ليست بعيدة عن خطابها السياسي الجديد. فقد حمل عليها البعض بشدة، واصفاً إياها بمفارقة خطابها الانتخابي لتقاليد "اليسار" الفرنسي وأفكاره العريقة المتوارثة. من ذلك مثلاً قولها إن على الفرنسيين أن يمسكوا بزمام حياتهم بأيديهم، وذلك بمواجهتهم لحقيقة أنفسهم وللخيارات الفعلية المتاحة أمامهم. ولكن السؤال هو: لماذا بدت تلك العبارات عادية ومألوفة للأذن؟ في الواقع كنت أسمعها وأنا أستعيد كلمات الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، التي استخدمها في خطابه الرئاسي الافتتاحي في مارس من عام 1933، عندما قال: "إن الشيء الوحيد الذي يخافه الأميركيون هو الخوف نفسه". ولاشك أن تلك العبارات قد خرجت على سجيتها وتلقائيتها من شفاه "سيجولين رويال". ولكن ما أكثر أوجه الشبه بين موقف كلتا الدولتين في لحظتيهما التاريخيتين المختلفتين تمام الاختلاف! فقد صدرت العبارة المنسوبة لـ"روزفلت"، في وقت كان الكساد الاقتصادي يعم أميركا أكثر من ذي قبل، بينما يسود هنا في فرنسا اليوم، شعور عام بالخيبة والعسر. ومن خلال ظهورها في حملتها الأخيرة هذه، خاصة عبر التسجيلات التلفزيونية الثلاثة التي أجريت لها، فقد بدت دائماً وهي تبدي اهتماماً بمخاطبة الشعب الفرنسي، أكثر مما تخاطب بقية الساسة الآخرين. وكما نعتتها الصحافة الفرنسية ساخرة بـ"مادونا استطلاعات الرأي العام"، فقد مضت هي حثيثاً في هذا المنحى، منذ انطلاق حملتها الانتخابية الرئاسية. وحينما دخل الحزب "الاشتراكي" المحاورات الانتخابية الأولى في صفوفه وبين أعضائه، كان البعض قد أبدى مخاوف من أن تعصف بشعبيتها شخصيتان قياديتان من أعرق شخصيات الحزب وأكثرها رسوخاً وواقعية. وعلى رغم تراجع التقدم الذي كانت قد أحرزته في بداية انطلاق الحوار الانتخابي، فإنها انتهت أخيراً بإحراز نسبة تفوق بلغت 60 في المئة، علماً بأن نسبة المشاركين في هذا التصويت قد بلغت 80 في المئة من "الاشتراكيين" الذين جرى تسجيلهم. ثم هناك مفارقة أخرى لابد من الوقوف عندها. فمنذ بداية حملتها الانتخابية انتقدها البعض بأنها تعول على النظرات والنواحي الشكلية، واتهمت بالافتقار إلى برنامج انتخابي محدد، وبـ"الشعبوية" بسبب توجيهها نداءً لناخبيها بمشاركتها في صياغة البرنامج، سواء أكانت تلك المشاركة عبر الإنترنت، أم عبر شبكة الناخبين المؤيدين لها. والشاهد أنها ومنذ البداية، سلَّطت اهتمامها على أمرين هما "المشاركة" و"اللامركزية". وفي الوقت ذاته انتقدت حملتها المفاهيم التقليدية المتوارثة عند "الاشتراكيين" بشأن أسبوع العمل المؤلف من 35 ساعة، بينما أحسنت الحديث والإطراء عن المؤسسة العسكرية الفرنسية -فوالدها عسكري مهني محترف- وكذلك عن حزب "العمال" البريطاني الجديد بقيادة توني بلير. وفي عام 1933، كان المعلق الأميركي "والتر ليبمان"، قد وصف حاكم ولاية نيويورك الشاب، بأنه "رجل عطوف ذو نزعات خيرية إنسانية متعددة. لكن بسبب ميله المستمر لإرضاء الآخرين، فإن فرانكلين روزفلت لم يكن بالشخصية الصِدامية بأي حال من الأحوال، مما يجعله غير ملائم لتولي مهام خدمة الشعب. وعلى الرغم من لطف شخصيته، كان يفتقر إلى أهم الكفاءات والمهارات التي لابد من توفرها في الرئيس الأميركي. ومع ذلك، فكم كان روزفلت تواقاً لتولي منصب الرئيس". وقد كان ذلك التعليق صحيحاً وفي محله، مثلما هو صحيح الكثير من التعليقات الشبيهة الأخرى. فحتى عام 1932، لم يكن لروزفلت أدنى تصور كامل ممكن لما يجب أن تكون عليه هذه المهمة الرئاسية الجديدة التي كان يتطلع لتوليها. ولكن كان حوله عدد كبير من المستشارين والمهنيين والأكاديميين وأساتذة الجامعات. وكانت "الصفقة الجديدة" التي تبناها روزفلت، قد شكل ملامحها وخطوطها العامة والتفصيلية، الآلاف ممن كانت لهم الأفكار والتصورات، الذين أبدوا رغبة في العمل المشترك معه، بينما أبدى هو ومستشاروه استعداداً كافياً لما كانوا يقولونه له. وعلى رغم فشل الكثير من جوانب تلك "الصفقة" فإنهم أعادوا المحاولة مرة إثر الأخرى، فكانت تلك الابتكارات والإبداعات الباهرة، غير المبرمجة، التي مكنت أميركا من الاستجابة المبدعة والمسؤولة لموسم كسادها الاقتصادي العظيم. وربما كان الفوز المفاجئ وغير المتوقع الذي حققته "سيجولين رويال" على منافسيها المرشحين من الحزب "الاشتراكي"، من قبيل ذات الإبداع والابتكار في العمل السياسي الذي سبقه إليها الرئيس الأميركي الأسبق "فرانكلين روزفلت". فقد استطاعت أن تخرس ألسنة منتقديها بما نالته من نسبة تصويت عالية لصالحها، فضلاً عما حصدته من اتجاه عام واسع النطاق مؤيد لها في استطلاعات الرأي التي أجريت قبيل التصويت. وبالنتيجة فقد انتهت حدة معلقة صحفية عرفت بانتقاداتها اللاذعة لـ"سيجولين"، مثل "ميشيل ستوفينو" إلى ضرب من السخرية المهذبة اللائقة بقولها: "هي تبدو في معطفها الأبيض، كما لو كانت تقف في وسط سحابة بيضاء صغيرة، وكأن يد الأقدار وحدها حوَّرت شكلها وملامحها، ورسمت لها شكلاً ومصيراً جديدين تماماً. وبدت سيجولين كما لو كانت الجنرال شارل ديجول في قصر الإليزيه ليلة التحرير"! وكما جاء على لسان "سيجولين" نفسها: "إنني سوف أصبح المرشحة الرئاسية غير الخنوعة ولا الطيِّعة". ولشد ما بدت على قدر كبير من الثقة بنفسها، إلى حد دفع "برناديت شيراك" –قرينة الرئيس شيراك- إلى القول معلقة: "لقد حانت ساعة النساء"! وقالت السيدة شيراك إنها اعتادت التشاور مع زوجها دائماً قبل الإدلاء بأي تصريحات للصحف ووسائل الإعلام، غير أنني لم أعد أستشيره اليوم. وعلى حد قول المعلقة الصحفية "ستوفينوت"، فإن أحد محاسن فوز "سيجولين"، هو تحريرها للسيدة شيراك. وقد علق المجتمع الفرنسي أهمية اجتماعية كبيرة على فوز "سيجولين"، غير أنه ربما كانت له أهميته السياسية الكبرى كذلك. ولعل أحد مظاهر أهمية هذا الفوز من الناحية السياسية، أنه سيضع "يمين الوسط" بالحزب "الاشتراكي" الفرنسي تحت ضغط كبير، يطالبه بإجراء حواره الخاص بين الناخبين، على أمل تحريض المزيد من المرشحين على منافسة نيكولا ساركوزي، المرشح عن الجبهة "المحافظة". بل ربما دفع هذا الفوز الرئيس جاك شيراك نفسه إلى التدخل لحسم نتائج الحملة الرئاسية المقبلة، على غرار ما فعلت زوجته بإطرائها على "سيجولين رويال". فليس مستبعداً أن يفضل شيراك أن تخلفه المرأة الاشتراكية، لتتحقق سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الرئاسة الفرنسية، بدلاً من أن يترك منصبه الحالي لرجل "يميني" منافس له. ويليام فاف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"