لم تنجح الدولة التي نشأت في المشرق العربي، على إثر تسويات مجحفة بين النخب المحلية والقوى الأجنبية، في التطور والتحول إلى دولة مواطنيها، أي إلى مرجعية لسلطة شرعية ومقبولة من قبل المجتمع، تستطيع أن تقوده وتلهمه، وتملأ الفراغ الذي تركه انحلال الدولة السلطانية القديمة وانحسار دور السلطة الدينية التقليدية. كما أن المقاومة الوطنية الشعبية الواسعة لمشروع هذه الدولة، المستلبة الإرادة والمفتقرة للهوية والمعنى، لم تنجح أيضاً في فرض التغيير، أو في بناء مجتمع سياسي فاعل، قادر على تغيير بنية هذه الدولة أو على بناء دولته الخاصة الجديدة المرتبطة به والمنتمية إليه، سواء أكانت "دولة المواطنة" التي تقيم العلاقات المجتمعية على أسس سياسة عقلانية وقانونية طوعية، أو "دولة الأمة"، العربية أو الإسلامية، المتماهية ثقافياً وقيمياً مع الجماعة والمعبرة عنها. ولا يزال الوضع، كما كان منذ عقود، بل ربما زاد التعارض اليوم بين منطق الدولة ومنطق المجتمع والسياسة، بين منطق التشرذم الذي يسم المجتمعات المدنية ويدفعها إلى التنافر، ومنطق الوحدة الذي يؤسس لأمة ويقوم على تكوين إرادة جامعة. وكما زاد عدم الاستقرار من اندفاع النخب الحاكمة وراء طلب الحماية الأجنبية، دفع الإخفاق المستمر للمقاومات الأهلية إلى تزايد الرهان على تعبئة العصبيات ما قبل السياسية، المذهبية والطائفية والأقوامية معاً. وهو ما يقود أكثر فأكثر إلى التجويف السياسي للدولة، وإلى تحويل المقاومات الأهلية إلى تمرد عصبيات وجماعات وطوائف، لا علاقة لمشاريعها بأي رؤية وطنية واضحة ولا بقيمها وأهدافها. والحال، لا يبني الدولة تعميق التبعية للخارج ومطابقة السياسات الوطنية مع الاستراتيجيات الأجنبية. وهي السياسة التي اتبعتها ولا تزال الغالبية العظمى من النخب العربية التي فهمت قانون اللعبة أو البقاء في الحكم في المنطقة، وقبلت بالعمل تحت مظلة القوى الغربية الفاعلة وعلى أجندتها. وهي تدفع اليوم فاتورة خوفها وقصر نظرها واستهتارها بمعايير السيادة والأمن والاستقلال، واستسهالها الحكم بالقوة، وتهميش المجتمعات وإخضاعها. فهي تجد نفسها محاصرة ومعطلة. بالمقابل، لا يكفي لبناء الوحدة الوطنية والإرادة الجماعية، بما تتطلبه من سيادة واستقلال، الممانعة أو المقاومة السلبية القائمة على السعي إلى إفشال الخطط الغربية، ونقل المعركة إلى كل مكان في العالم، بهدف زعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، أو تهديد سيادة الدول الأجنبية المسيطرة، بينما يستمر حرمان الشعوب، باسم القومية أو الدين أو التنمية أو الاستقرار، من الحريات والحقوق الأساسية. فإذا كانت الدولة تتطلب السيادة، فإن الوطنية التي تشكل روح الدولة ومبرر وجودها، تتطلب الوحدة والتفاهم بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما لا يمكن أن يقوم اليوم على أسس أخرى غير أسس العدالة والحرية والمساواة، والاعتراف المتبادل، والتضامن، والتكافل... أي عكس ما تعمل عليه الممانعات الخصوصية الراهنة. وكما أنه لا يمكن تذويب المهام السياسية الخاصة ببناء الإجماع الداخلي في المهام الاستراتيجية المرتبطة بتأمين السيادة تجاه الخارج، لا يمكن أيضاً تذويب مهام الحفاظ على السيادة الخارجية في المسائل السياسية الداخلية أو ردها إليها. فأساس الدولة الأمة، أو دولة المواطنة الحديثة، ركنان: سيادة الدولة التي لا يمكن قيام حقل سياسة داخلي وممارسة سياسية فعلية من دونها، وسيادة الشعب التي لا يمكن نشوء الحريات الفردية من دونها. فالدولة مؤسسة والوطنية سياسة، وليس هناك قيمة للدولة إذا كانت لا تؤسس للسياسة، ولا قيمة للسياسة إذا كانت طائفية أو مذهبية أو فئوية أو محققة لأجندة التبعية الخارجية، ولم يكن هدفها، وفي قدرتها أيضاً، إنشاء الحريات الأساسية الفردية والجمعية التي لا قيمة للدولة من دونها. وكما أن الدولة المفرغة من السيادة لا يمكن أن تكون مؤسسة صالحة لبناء حقل سياسة مستقل بما فيه الكفاية حتى يعكس مصالح مجتمعه، ويعبر عن إرادته العامة... كذلك لا تقود المقاومة إلا إلى الخراب والفوضى إذا اقتصرت على الصدام مع النظام المحلي والدولي القائم، ولم تنجح في بناء مفهوم بديل للدولة، أي في بلورة معالم سلطة شرعية ومؤسسات قانونية راسخة تخدم المجتمعات وتأخذ بيدها في عملية التنمية الشاملة والاندراج في الحضارة الإنسانية. في هذه الحالة، لا تتعلق الأمور بسلوك طرف واحد، خارجي أو داخلي فحسب، ولكن بهما معاً. فلكي تكون هناك دولة مقنعة لسكانها، ينبغي أن يكون هناك نظام دولي أيضاً يتيح تكوينها من حيث هي كذلك، أي يمكّنها من امتلاك السيادة والاستقلال. وبالمثل، فلكي تكون هناك قومية بناءة، قادرة على توحيد الإرادة الجماعية والتأسيس لحياة مدنية وسياسية ناجعة وفعالة، ينبغي أن يتجاوز مفهومها رفض مشاريع الآخر وسياساته، مهما كانت عدوانية، ويؤسس لمشاريع وطنية جامعة، ملهمة ومعبأة، قادرة على توحيد المجتمعات وتفجير طاقاتها. وهو ما لا يمكن تحقيقه بالانكفاء على مفاهيم الممانعة والدفاع عن الهوية الخاصة، عربية كانت أم إسلامية أم مذهبية، ومن باب أولى على مجرد مشاعر العداء للغرب والصدام معه وتهديد مصالحه وأهدافه. فكما أن الدولة ليست إفرازاً تلقائياً، ولا تركيباً خصوصياً لهوية اجتماعية، ولكنها تركيبة عالمية تستمد معاييرها وقواعد عملها وشكلها وشرعيتها من النظام العالمي الذي تأسست في إطاره، واعترف بها كدولة مستقلة وعضواً في المنظومة الدولية، تشكل الوطنية تعبيراً عن وعي الجماعة لذاتها ونزوعها إلى التكون كفاعل تاريخي مستقل، في ساحة النشاط الحضاري العالمية. فالدولة بعكس الشعب، ذات هوية عالمية، وبوصفها كذلك فهي تشكل وسيلة للتواصل بين الشعوب وتجاوز خصوصياتها لبناء مجتمع دولي قائم على مبادئء ثابتة وواحدة. ومن هنا، كما يستحيل بناء الدولة والتقدم في بنائها، من خلال مواجهة المجموعة الدولية أو بالخروج عليها ورفض التفاهم معها، كذلك يستحيل ضمان صدقيتها واحترامها من قبل الجماعات التي تنضوي تحت رايتها إن بقيت دولة ناقصة السيادة، وأظهرت الاستسلام للإرادة الخارجية والتبعية للجماعات الأخرى الخاصة. وفي المشرق العربي الذي خضع فيه بناء الدولة وممارستها لنفوذها، منذ تكوينها، لحاجات السيطرة الغربية، وارتبط تطور دورها ووسائل عملها، وعلاقتها بمجتمعاتها نفسها، بتطور مصالح الكتلة الغربية وتحالفاتها مع أطراف أو نخب محلية خاصة، ما كان من الممكن لفكرتها أن تستقر في الأذهان، ولا لآليات عملها ومؤسساتها أن تستقيم. فبقدر ما بدت هذه المصالح متعارضة مع المصالح الشعبية العربية أو منافية لها، أصبحت الدولة تظهر في الوعي العام وتتجلى كأداة للسيطرة الأجنبية، الخارجية أو الداخلية المتمردة على الجماعة الوطنية، أكثر منها وسيلة للتعبير عن إرادة هذه الجماعة وحاجاتها، وصار من غير الممكن لها أن تكون إطاراً لنشوء وطنية فعالة وحية.