حسب المصادر اللبنانية تقوم السعودية بدور كبير بين أطراف الأزمة التي تعصف بلبنان هذه الأيام. استمر هذا الدور منذ ما قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. كان الاعتقاد أن الموقف السعودي الأول من الحرب سيؤدي إلى إدخال السعودية إلى حلبة التحالفات داخل لبنان، وبالتالي يدفعها إلى أن تكون مع بعض الأطراف مقابل أطراف أخرى. ستجد نفسها مع قوى 14 آذار، وخاصة تيار المستقبل، في مواجهة قوى 8 آذار، وتحديدا "حزب الله". تعزز هذا الاعتقاد مع التوتر الذي أصاب العلاقات السعودية السورية أثناء الحرب وبعدها، وخصوصا في أعقاب خطاب الرئيس السوري الذي جاء بعد انتهاء الحرب وتحدث فيه عما أسماه بـ"أنصاف المواقف وأنصاف الرجال". وهذه إشارة خفية وبذيئة إلى الموقفين السعودي والمصري من الحرب. والسياسة الخارجية لبعض الجمهوريات العربية ظلت خاضعة ولأكثر من ثلاثين سنة لخطاب سياسي كثيرا ما يلجأ إلى التعبير عن نفسه في لحظات الخلافات والأزمات باسلوب يعتمد الجرأة إلى حد تجاوز مقتضيات الدبلوماسية والمهنية، فضلا عن متطلبات العلاقات العربية ـ العربية، كأفضل أداة ضغط سياسية في المنطقة للحصول على تنازلات أو مكتسبات من الطرف العربي الآخر. بعبارة أخرى، أسلوب يقوم على فكرة الابتزاز. المهم أن السعوديين أبدوا حرصا كبيرا وواضحا على تفادي الدخول في لعبة الاصطفافات والتحالفات في الداخل اللبناني. أبقوا قنوات اتصالهم مفتوحة مع منظمة "أمل" و"حزب الله". ويحاولون مع الجنرال ميشال عون، باعتباره أحد أطراف المعارضة. الاجتماعات المتكررة، والطويلة أحيانا بين السفير السعودي في بيروت، عبدالعزيز خوجه، والأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصرالله. حسب المصادر الصحفية اللبنانية تتركز الجهود السعودية بشكل أساسي على تحقيق حد أدنى من التوافق بين أطراف الأزمة اللبنانية، بما يمكن من التوصل إلى الحل المنشود. بعبارة أخرى، تسعى السعودية إلى إيجاد شيء من التوازن بين مصالح الأطراف بحيث يفرض على كل منها تقديم بعض التنازلات كوسيلة لتحقيق الالتقاء حول الحد الأدنى المطلوب. السؤال هنا: هل بقي هناك شيء من التوازن، وأقصد بذلك توازن المصلحة، في الساحة اللبنانية يمكن التعويل عليه؟ مسار الأحداث منذ اغتيال الحريري العام الماضي، وبشكل خاص منذ نهاية الحرب الإسرائيلية الأخيرة، يشير بشكل متصاعد إلى أن تقاطع المصالح السياسية للأطراف اللبنانية يتضاءل بشكل سريع، وأن توازنات المصلحة فيما بينها يتآكل بشكل مستمر. ما يحصل في لبنان هو نتيجة لتغيرات كبيرة محلية وإقليمية باتت معروفة لكل مراقب. كانت نقطة البداية هي اغتيال الحريري أوائل العام الماضي. بعد ذلك بدأت التغيرات: بعضها كان جديدا مثل خروج سوريا من لبنان. وبعضها الآخر إما تعمق أو تغيرت وجهته. من بين أهم هذه التغيرات: تنامي دور "حزب الله"، ومعه الدور الشيعي، كطرف يقود المعارضة، حتى عندما كان في الحكومة. ثم تنامي الدور الإيراني مقابل تراجع الدور العربي في المنطقة، تورط أميركي في مأزق العراق، وفشل إسرائيلي في لبنان. في الداخل اللبناني برزت قوة ميشيل عون، وخرج سمير جعجع من السجن. ومن بين أهم التغيرات المحلية اللبنانية هو التغير الديموغرافي الذي يعتمل عادة بصمت وفقا لعوامل ليست كلها مرتبطة بالسياسة. فحسب صحيفة النهار اللبنانية يفيد آخر إحصاء سكاني بأن المسيحيين باتوا يشكلون 35% من السكان اللبنانيين. وهذا تغير، إذا صح، يصب في الإتجاه العام نفسه الذي تتخذه التغيرات السياسية في لبنان، وخاصة لجهة تراجع الدور المسيحي مقابل الدور الشيعي والسني. واللافت أن أحد كتاب الصحيفة نفسها استشهد بهذه النسبة ليقول موجها كلامه إلى البطريرك اللبناني صفير "أسرع أيها السيد البطريرك أعد إلى الموقع المسيحي الأول كرامته قبل أن يتهاوى الحضور المسيحي ويذهب نحو الاضمحلال."، وذلك في إشارة إلى تمنع بكركي عن اتخاذ دور فاعل في محاولات إقناع الرئيس الحالي إميل لحود بالتنحي. ويبقى أن من بين أهم التغيرات المحلية اللبنانية هو بالفعل البروز المستمر للدور الشيعي مقابل التراجع المستمر للدور المسيحي. العامل الأهم وراء تراجع الدور المسيحي لا يقتصر سببه على التراجع الديموغرافي، بل يشمل الانقسام السياسي داخل هذه الطائفة. هناك أيضا ملامح انقسام سني، وهو انقسام إذا ما تعمق فإنه يضيف إلى قوة وتماسك الدور الشيعي. أمام هذه التغيرات تبرز الكثير من الأسئلة من دون أن تكون لها إجابات واضحة، أو حتى مرجحة. ماهو الحد الذي تسعى السعودية إلى تحقيقه؟ وماهي العناصر السياسية التي يمكن التوافق حولها بين اللبنانيين؟ ثم ماهي المسافة التي تحتفظ بها السعودية مع الأطراف اللبنانية؟ وهل هي مسافة متساوية؟ أم تختلف باختلاف الانتماءات والتوجهات السياسية لكل طرف من هذه الأطراف؟ والسؤال الآخر المهم هو: كيف يتقاطع الدور السعودي مع الأدوار الإقليمية والدولية الأخرى داخل لبنان؟ كل هذه الأسئلة تفضي إلى سؤال مركزي: ما مدى إمكانية نجاح الدور السعودي في إيجاد مخرج للمأزق اللبناني؟ عندما طرح السؤال الأخير على رئيس الوزراء اللبناني السابق، عمر كرامي، كانت إجابته أن الدور السعودي بمفرده لن يتمكن من تحقيق المخرج المطلوب. وقد حرص كرامي على التأكيد بأنه ليس في وسع أي دور إقليمي أو دولي بمفرده أن يحقق الشيء الكثير. ولعله محق في ذلك، خاصة في ضوء حدة الانقسامات بين أطراف المشهد السياسي اللبناني هذه الأيام، وكذلك في ضوء أن تحالفات الأطراف اللبنانية السياسية لها امتدادات إقليمية ودولية. الموقع السياسي لكل طرف لا يعتمد بشكل أساسي على معطيات، ومصادر دعم لبنانية محلية. على العكس مصادر الدعم الخارجية لهذه الأطراف لا تقل أهمية عن المصادر المحلية. بل إن بعض الأطراف يكاد يعتمد بشكل على قوى الخارج. والشاهد هنا مصدر عدم الثقة، ومن ثم مصدر الخلاف بين الفرقاء اللبنانيين هو تحديدا هذه العلاقة مع الخارج، ودورها في تحديد مواقف هذا الطرف أو ذاك. حتى نقطة الخلاف الرئيسة بين الأطراف اللبنانية ليست محل إتفاق. بالنسبة للمعارضة، وخاصة "حزب الله" تتمثل هذه المسألة في مقترح "الحكومة الوطنية". "حزب الله" يصر على هذه الفكرة ليس فقط كمخرج، بل كحق سياسي مشروع. وبما أنها كذلك فإن رفض أو ممانعة الأكثرية حيالها يعني إصرارا على الاستئثار بالسلطة، وانصياع وراء الضغوط الأميركية. بالنسبة للأكثرية يأتي موضوع المحكمة الدولية ليصبح هو نقطة الخلاف الرئيسة، وأن إصرار المعارضة، وخاصة "حزب الله"، على فكرة الحكومة الوطنية يأتي بغرض فرض ما أصبح يعرف بالثلث المعطل. والمقصود بذلك أن المعارضة تريد أن تحصل على ثلث المقاعد الوزارية زائد واحد، لتحصل بذلك على قوة الفيتو داخل الحكومة. والهدف، كما تقول الأكثرية، هو لتعطيل المحكمة الدولية، وربما تفجير الحكومة من الداخل ومن ثم قتل فكرة هذه المحكمة، أو إضعافها إلى درجة لا تستطيع معه أن تصل إلى الحقيقة وراء اغتيال الحريري. لماذا تريد المعارضة أن تفعل ذلك؟ خدمة لسوريا نظرا إلى ما ترتبط به معها من علاقات ومصالح كبيرة محلية وإقليمية. بعبارة أخرى، تريد المعارضة حماية حليفتها سوريا من المحكمة الدولية. وهكذا يبقى الخارج هو مصدر انعدام الثقة بين الأطراف السياسية اللبنانية، ومصدر تفجر الموقف من حين لآخر. لكن هل الأمر كذلك فعلا؟ هل مصدر الأزمة هو الخارج؟ أم قابلية النظام السياسي اللبناني، وأطراف هذا النظام، للاختراق من الخارج؟ وللارتهان إلى الخارج؟ مشكلة اللبنانيين أنهم يتوهمون أنهم بذلك يتحركون ضمن نظام ديمقراطي تعددي، في حين أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. يسمونها في لبنان "الديمقراطية التوافقية"، وهي ليست أكثر من عملية توازنات سياسية بين زعماء طوائف تستمد الدعم أو التمويل، أو كليهما معا من الخارج. في خطابه الأخير طرح أمين عام "حزب الله" تبريرا لفكرة الحكومة الوطنية، وهو أن وجود المعارضة في الحكومة يضمن عدم التدخل الأميركي، ووجود الأكثرية يضمن من جهته عدم التدخل السوري. وهذا ليس مقترح حل نهائي، بل وصفة للشلل تؤكد سطوة الخارج بشقيه السوري والأميركي. في هذا الإطار لا يملك الدور السعودي، ولا غيره من الأدوار فرصة كبيرة للنجاح. كانت سوريا في الماضي تلعب دور المرجح بين توازنات الطوائف. هذه المرحلة انتهت، لكن التوازنات نفسها لا تزال قائمة. من دون تغيير النظام السياسي لهذه التوازنات لن يخرج لبنان من دوامة المأزق بعد الآخر، وهي دوامة عمرها الآن أكثر من ثمانين سنة.