في مطلع نوفمبر 2006، تصادف وأنا في طريقي إلى "منتدى الاتحاد" لمناقشة الملف النووي الإيراني، أن نشرت مجلة "دير شبيجل" الألمانية، مقالة مسهبة عن تجربة كوريا الشمالية لآخر سلاح نووي لها، وكيف يعيش الناس هناك المسغبة، مع ارتفاع قامة الأصنام النووية، في مملكة تستلب إرادة الإنسان واختياره، لعبادة القائد الثوري المحبوب كيم يونج. ومن أعجب ما جاء في المقالة؛ أن كلاً من الصين وكوريا الجنوبية، حريصتان على إبقاء نظام بيونج يانج والحفاظ عليه، رغم خطر السلاح النووي، وهما تعرفان أنه سلاح ليس للاستخدام، ولكن انهيار النظام سيجعل ملايين الناس يتدفقون من مملكة الجوع باتجاه الشمال والجنوب، أي كوريا الجنوبية والصين، وستكون كارثة إنسانية، صنعها النظام الشمولي، ويتحمل عواقبها الجيران. فهل من الأفضل إذن أن يبقى النظام ويموت الشعب؟ إنها اللعبة نفسها في الشرق الأوسط، فيما يخص كارثة العراق! أما في كوريا الشمالية فتتم المحافظة على الجيب الستاليني، لأن الانهيار لن يفتح واحة الديمقراطية، بل الفوضى، على شكل النموذج الصومالي؛ حيث مازال الناس في القرن الأفريقي يقتتلون، مع أنهم هزموا أميركا بأسلحة فردية؟! وهو ما قد يحصل في العراق بعد خروج الأميركيين! وفي الجراحة لا تعني إزالة سرطان المعدة أن المريض شفي، بل حين يبدأ السرطان في الانتشار إلى الكبد والدماغ والرئتين، لا ينفع استئصاله من المعدة. وهو ما حصل مع "البعث" العراقي! وهذا يعني أن بوش والجلبي كانا جراحين سيئين، لم يضعا التشخيص الصحيح، وظنا أن "حالة" صدام لا تزيد عن خراج يكفي فيه ضربة مبضع، فكانت الكارثة. أما في كوريا الشمالية، فقد لا تحتاج الإطاحة ببقايا الجيوب الستالينية هناك، إلا لعملية أميركية جراحية صغيرة، لتفريغ القيح من الخراجات الإنسانية (بالتعبير الطبي)، و"نفخة" بسيطة من سلاح الجو الأميركي، كما فعلت في "الصدمة والرعب"، مع صدام حسين. ولكن كل المشكلة بعد ذلك، كما هو الحال مع نظام كوريا الشمالية؛ أنه ليس بعد الديكتاتورية إلا الفوضى. والسر في ذلك نفسي... ذلك أن تحرير "العبيد" بقرار فوقي، لا يحررهم! لقد اشترت ألمانيا الغربية شقيقتها الشرقية، وضخت حتى الآن 1250 مليار يورو بدون فائدة، فمن اعتاد الكسل، وتيبست مفاصله لم يصلحه التدليك. ويبدو أن الحل هو "حرق" جيل التيه والخوف كاملاً، كما حصل مع قوم موسى الذين دفنوا في الصحراء، ليخرج من نسلهم جيل صحراوي لا يعرف إلا الشمس والحرية. وعندما انطلق موسى في رحلة الخلاص لبني إسرائيل لم يقبلوا الخلاص، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؟ قال إنكم قوم تجهلون! إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. وهاهي إيران تفعل الشيء نفسه هذه الأيام، في بناء "الأصنام النووية"، مع معرفتها بأن "النووي" ليس سلاحاً للاستخدام، وأنه باهظ التكاليف، وأن كل من دخل هذا النادي رجع، وأن النادي النووي اليوم بدأ يغلق أبوابه، كما بدأ رواده يتركونه! وما تفعله إيران يشبه ما يفعل الحاج الذي يريد أن يحج، والناس راجعون من عرفات، ويظن أنه الحج الأكبر. وسبقت باكستان من قبل إلى امتلاك السلاح النووي، فلم يغنها شيئاً؛ عندما أزفت الآزفة، وجاءت ساعة الحقيقة الموجعة، مع اجتياح أفغانستان، فخافت على الأصنام التي صنعتها. وهي نكتة موجعة لم يدركها الناس يومها. روى لنا عمر الفاروق عن الجاهلية، أنهم كانوا إذا جاعوا أكلوا أصنام التمر، ولكن مشكلة الأصنام النووية أنها غير قابلة للأكل، ولعل أفضل شيء أن لا تبنى أصلاً. لكن متى كان المنطق والعقل هما اللذان يسودان حركة التاريخ؟