أثبتت الأحداث أن أداء الحكومة العراقية المنتخبة ديمقراطياً والتي يترأسها نوري المالكي كان -ولا يزال- مخيباً للآمال إلى حد كبير. فالأمن تدهور منذ أن تولى المالكي منصبه، كما أن الرجل تجاهل مناشدات المسؤولين الأميركيين، ولم يبدِ رغبة في شن حملات دهم على المليشيات وفرق الموت، التي تؤجج نيران العنف الطائفي. وقد جاءت حادثة الاختطاف الجماعي من مبنى وزارة التعليم العالي في بغداد يوم الثلاثاء الماضي والتي قام بها مسلحون يرتدون زي الشرطة العسكرية كي تبين بوضوح النتائج الكارثية لكل ذلك. علاوة على ذلك لا يزال الفساد متفشياً ولا يزال يفعل فعله المدمر حيث قامت حكومة المالكي بإهدار مئات ملايين الدولارات كما أنه لا أحد هناك يعرف شيئاً عن مصير عائدات النفط والمساعدات الأجنبية التي تبخرت. كما يقوم المالكي ووزراؤه بالتعامل مع الوزارات التي يشرفون عليها على أنها إقطاعيات خاصة فيقومون بتوزيع وظائفها على محاسيبهم دون رقابة، ويحرمون منها التكنوقراط القادرين. هل يعني كل ذلك أن طموحات الولايات المتحدة لجلب الديمقراطية للعراق كانت خطأً؟ باعتبار أنني كنت من المؤيدين للحرب على العراق، وأنني عملت بعد ذلك مستشاراً لسلطة الائتلاف المؤقت التابعة للولايات المتحدة في ذلك البلد فإن إجابتي هي: لا أعتقد ذلك. فعلى الرغم من الإحباط الذي نشعر به تجاه حكومة المالكي، إلا أن المنطق الاستراتيجي لتلك الحرب والمتعلق بترويج الديمقراطية في الشرق الأوسط، وفي العراق على وجه خاص، لا يزال صحيحاً. كل ما هنالك هو أن ذلك المنطق يجب أن يتحول الآن إلى استراتيجية طويلة الأمد كي يتحقق لنا النجاح في النهاية. ومع تصاعد العنف في العراق فإن نفاد الصبر الذي نلاحظه الآن في واشنطن يجب ألا يمثل مفاجأة. فالسيناتور "جوزيف آر. بايدن" "الديمقراطي" عن ولاية "ديلاور" والمرشح لتولي منصب لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، أعلن أنه لا يثق في حكومة المالكي ودعا إلى تقسيم العراق. في نفس الوقت طالب أعضاء آخرون في الكونجرس بالاستغناء عن الدستور العراقي والعمل على تنصيب رجل قوي في العراق، بل إن هناك إشاعات تتردد في بغداد فحواها أن "السي.آي.إيه" تخطط لانقلاب عسكري هناك. على الرغم من ذلك يجب علينا أن نعرف أن التخلي عن هدف تحقيق الديمقراطية في العراق، سيؤدي إلى تعزيز نظريات المؤامرة التي يؤمن بها خصومنا وأعداؤنا، كما أنه سيكون بمثابة خيانة للعراقيين وسيؤثر سلباً على مصداقية الدبلوماسية الأميركية لعقود طويلة قادمة. وبدلاً من ذلك أقترح أن تترك الإدارة الأميركية حكومة المالكي في مكانها على اعتبار أنها حكومة منتخبة، على أن تمنع التمويل المالي عنها. وإذا ما كان المالكي يريد أن يتعامل مع الوزارات العراقية على أنها إقطاعيات خاصة فليفعل ذلك دون الاستفادة بأموالنا.. فالناخبون الأميركيون ليسوا ملزمين بدعم حكومة غير كفؤة ومعادية للمصالح الأميركية. وهناك بعض أعضاء الكونجرس الذين يدعون إلى اتباع أسلوب العلاج بالصدمة من أجل تقويم حكومة المالكي. من هؤلاء الأعضاء السيناتور "كارل ليفين" الديمقراطي عن ميتشجان الذي يرى أن الطريقة التي يمكن بها إرغام هذه الحكومة على تولي المسؤولية هي تنفيذ انسحاب مرحلي للقوات الأميركية في العراق. بيد أن الذي سيستفيد من ذلك في رأيي هي المليشيات الأفضل تسليحاً وتنظيماً من غيرها، لأنها هي التي ستكون قادرة على السيطرة على زمام الأمور في حالة انسحاب القوات الأميركية. أما أسلوب قطع الإعانات التي نقدمها للحكومة المركزية في بغداد فهو فقط الذي سيدعو الحكومة إلى إصلاح نفسها، وهو الذي سيزيد من درجة فعالية عملية جمع الضرائب في العراق، وهو الذي سيحقق قدراً أكبر من الشفافية على إيرادات النفط فالمحاسبة وليس الانتخابات هي في رأيي التي تمثل حجر الأساس للديمقراطية. وأنا بالطبع لا أقترح قطع المساعدات والإعانات عن العراق تماماً وإنما أدعو بدلاً من تسليمها إلى الحكومة المركزية إلى تسليمها بدلاً من ذلك -بواسطة القوات الأميركية- إلى البلديات وخصوصاً تلك البلديات التي تتم إدارتها بواسطة مجالس مدن وبلدات منتخبة ديمقراطياً لأن أفضل وسيلة للديمقراطية هي بناؤها من القاعدة إلى القمة. ولكن هل يمكن للتركيز على تمويل السكان المحليين أن ينجح في ظل العنف الطائفي الدامي المتصاعد في العراق؟ نعم يمكن أن ينجح.. وخصوصاً لو عرفنا أن العديد من العراقيين يؤيدون المليشيات لأنها توفر لهم الخدمات والأمن التي تعجز الحكومة المركزية عن تقديمها لهم. والعائق الرئيسي الذي يقف في طريق عملية إعادة البناء في الوقت الراهن هو الفساد والأمن. ودورياتنا العسكرية لا تتوقف عن التنقل في مختلف أنحاء العراق وهي تزور كل مدينة وكل بلدة وكل قرية تقريباً ويعرف مسؤولوها جيداً كيف يمكنهم مراقبة الأموال التي يقوموا بتوزيعها. فعلى الرغم من أن المليارات التي أنفقها الدبلوماسيون القابعون في المنطقة الخضراء قد تبخرت، فإن القوات الأميركية يمكن أن تؤمن عملية المحاسبة و المساءلة المفتقدة في العراق حالياً. إن ضخ الأموال للمشروعات المحلية مباشرة يجدي نفعاً في الحقيقة.. فهذا الأسلوب هو الذي مكن مقتدى الصدر ومليشياته من كسب قلوب بعض العراقيين إن لم يكن كسب عقولهم أيضاً وبتكلفة قليلة للغاية. لذلك وبدلاً من تجاهل أعدائنا فإننا يجب أن نستنسخ أسلوبهم الناجح في كسب العقول والقلوب. فالمخاطر التي تحيط بالعراق وبالأمن القومي الأميركي كبيرة بدرجة لا تسمح لنا بإلقاء الراية وإعلان استسلامنا الآن. مايكل روبين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستشار سابق لسلطة الحكم الانتقالي في العراق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"