منذ شهر أكتوبر الفائت تحتفي أوساط عربية بمرور ثلاث وثلاثين سنة على وفاة عميد الأدب العربي والمفكر التنويري طه حسين. ومع الإشارة إلى هذه "الأوساط" الوفيّة لذكرى طه حسين، فإنه يسجَّل وضع مفعمٌ بالأسى والتأمل ويُفصح عن نفسه في أن هذه الذكرى تمرّ كومض شهاب لا يراه إلا قلة وللحظة سريعة متسارعة. طه حسين، الذي أحدث تأثيراً عميقاً في مصر وبلدان عربية أخرى في سنين مضت، يكاد لا يلتفت إليه إلا أفراد في مرحلتنا العجفاء. فالأزمة الكبرى التي تخترق الفكر العربي الراهن (ومعه الواقع العربي) تحت وقْع الأحداث العالمية العاصفة وتحت قبضة الحُطام العربي الراهن، تقود إلى التبرُّؤ من فكر الرجل وإلى إظهاره وكأنه من خارج الفكر العربي الحديث والمعاصر. لقد انبسط الفكر الظلامي عمقاً وسطحاً في ثنايا الواقع العربي، آخذاً ثلاث صيغ، هي الظلامية الأصولية الدينية، وظلامية النظم الاستبدادية الإقصائية العربية، وظلامية الفكر العولمي الملخّص بتعبير الرئيس الأميركي بوش: إما أن تكون ديمقراطياً (كما يرى هو)، وإما أن تكون إرهابياً. وفي مناهضة هذا الفكر الظلامي، بالضبط، يكمن الإسهام الحسيني، في أحد تجلياته العظمى، المتمثل في دعوته لمواجهته، أي الفكر الظلامي، بفكر قادر على استيعاب البشر كلهم بحرية ومسؤولية والتزام، نعني الفكر التنويري التعددي. فالإنتاج الأدبي والثقافي العمومي الحسيني قام -في عمومه وإجماله- على نمط من الفكر التنويري وعلى الدعوة إليه في أوساط الناس جميعاً. وقد أتى ذلك في سياق المعركة التي أعلنها طه حسين من أجل "التعليم العام" في مصر، خصوصاً حين كان على رأس مهمتين نُدب لهما من قِبل وزارة المعارف ومن الجامعة، لتمثيل الأولى (الوزارة) في مؤتمر للجان الوطنية للتعاون الفكري في باريس، وتمثيل الثانية (الجامعة) في مؤتمر التعليم العالي أيضاً في باريس. وبعد عودته إلى مصر، لخّص ما سمعه وفكّر فيه وراح يؤسس له في كتاب صدر بعنوان "مستقبل الثقافة في مصر"، وبمقدمة يرجع تاريخها إلى عام 1938. وقد صدر في جزءين يحمل أولهما عنواناً خاصاً هو "التنوير". في هذا الجزء الأول، يكتب طه حسين ما يلي: "أنا أرفض أشد الرفض وأعنفه أن يُقصر هذا التعليم (العام) على طبقة من الناس دون طبقة، أو أن يُباح للناس جميعاً في القانون ثم تُخلق المصاعب العملية أمام الفقراء والمعدمين لتضطرهم إلى الاكتفاء بالتعليم الأوّلي، وتفرض عليهم الجهل وقد كانوا يستطيعون أن يتعلموا، وتلزمهم الخمول وقد كانوا يستطيعون أن يُنبَّهوا". إن التعليم للجميع، هو خطوة في اتجاه حقوق الإنسان، مع حق الحياة والعمل والمشاركة العمومية في الشأن العام المجتمعي. ذلك ما رآه طه حسين، وذلك في سياق الدعوة الكبرى والحاسمة إلى "النظام الديمقراطي". وهذه نقطة ذات أهمية معرفية نظرية وسياسية، وضع الرجل يده عليها، كي لا تتحول الدعوة الأولى إلى "التعليم العام" إلى وهم، إذا ما أُقصِيت من موقعها في النظام الديمقراطي. يرفض طه حسين أي كيفية يُكرَّس فيها التمايز التعليمي بين الناس فئاتٍ وشرائح وطبقات، وهو -في هذا- يستند إلى "النظام الديمقراطي، والحكم الدستوري، والحياة النيابية التي تقوم على الانتخاب العام المباشر"، غير عابئ بالشروط التاريخية للعلاقة بين السلطة السياسية والثقافة، وغير عابئ بما يمكن أن ينشأ من نصوص ديمقراطية دستورية تتحول -ضمن لعبة السلطة والاستفراد بها- إلى قفاز لتسويغ الاستبداد السياسي والاستفراد بالثروة وبالإعلام وبالحقيقة. طه حسين يرى أن "السلطات لا تصدر عن الجهل، ولا عن الغفلة"، ولا تصدر عن الرقّ، ولا عن الذلة، ولا عن الخنوع، وإنما تصدر عن النفوس المثقفة المهذبة، "الكريمة العزيزة". ولعله -في هذا- كان يتصور "السلطات" بوصفها استجابة خلاقة لنصوص الدستور والنظام الديمقراطي عموماً، بحيث إذا ما تخلّت عن هذه الاستجابة، فإنها تكون أمراً آخر. إن النزعة الديمقراطية التنويرية والإنسانية العميقة، تجلّت عند طه حسين في كتاباته وسجالاته الأدبية والثقافية والسياسية. وما ميّز هذه النزعة الحسينية أنها أتت لتشمل الناس جميعاً، رجالاً ونساء، دونما تمييز بين جنس أو آخر، وبين فئة اجتماعية أو أخرى. وهو -في هذا- ضرب عرض الحائط بآراء مجموعة من المثقفين والأدباء والمفكرين، الذين رأوا أن العرب، من حيث الأساس، غير مهيئين للإبداع والتعلم، إلا ما ندر منهم. إن ذكرى طه حسين إن هي، الآن، إلا دعوة لإعادة بناء الثقافة العربية من موقع العقلانية والديمقراطية والنزعة الإنسانية، في مرحلة هي الآن في حالة الابتلاع من الظلامية المتدفّقة.