لا يمكن لأي مراقب لأحوال العرب اليوم أن ينكر الانتصار السطحي والظاهري للفكر الديني. وأقول الظاهري والسطحي لأن العرب حداثيون حتى النخاع في استخدام متع التقنيات الفضائية, وليبراليون في السر حين يقومون بتشفير القنوات الفضائية, أو استخدام الفضائيات والإنترنت لأغراضهم الخاصة أو للتجارة أو السياحة, لكنهم في العلن يدَّعون التديُّن وتبني الفكر الديني, ويعلنون رفضهم ونبذهم للفكر الحداثي بل ولكل ما يتصل بالاستحقاقات الفكرية لهذه الحداثة, خاصة الليبرالية, وما يترتب عليها من متطلبات الحريات الفكرية والمدنية وحقوق الإنسان! إلى درجة أنه يمكن القول بيقين إن الليبرالية الفكرية والسياسية لم ولن تجد لها قبولاً لدى معظم الناس، بمن فيهم حمَلة الشهادات العليا. والسؤال: لماذا يحدث هذا الفشل؟ بمعنى كيف يمكن تفسير هذا التناقض الفكري والنفسي لدى العرب بين تقبلهم منجزات الحداثة المادية, ورفضهم المنجزات الفكرية؟ يعود فشل الليبرالية على المستوى الفكري في العالم العربي للتركيبة النفسية للإنسان العربي ذاته وذلك من خلال الشواهد المادية التالية: 1- تبني أسلوب الازدواجية في الحياة اليومية بسبب هيمنة التقاليد وثقافة الكبت والتظاهر الكاذب, حتى أصبح مقبولاً على المستوى الاجتماعي تبني الإنسان أكثر من موقف لقضية واحدة. أو على رأي الكاتب يوسف السباعي رحمه الله: "أنا لا أكذب ولكنني أتجمل"! 2- عدم الإحساس على المستوى الشخصي بعقدة الذنب السوية عند مخالفة السر للعلن. فمثلاً تجد الواحد منهم يشرب الخمر في السر مع الأصدقاء، لكنه لا يلعنها في العلن فحسب, بل ويرفض تزويج ابنته من آخر يشاركه في المشروب. 3- ثقافة الخوف الكاذبة على السمعة، سواء على المستوى السياسي، حيث يتم امتداح الحاكم في العلن وانتقاده في السر، أو على المستوى الاجتماعي. 4- رفضه مبدأ حقوق الإنسان بسبب استحقاقاتها الإنسانية والقانونية. 5- رفضه مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة, باعتبار الأخيرة إنساناً من الدرجة الثانية في كل شيء. 6- عشقه لتراثه الاستبدادي الذي يتيح له بكل حرية اتخاذ القرار بدون مسؤولية. 7- سيادة روح الانتماء للقبيلة والطائفة، كبديل للمواطنة السياسية, لما تحققه له القبيلة والطائفة من مصالح ضيقة. هناك ولاشك العديد من الأمور الأخرى التي يمكن إضافتها, وبالتالي يمكن القول إن الفكر الليبرالي لا يتماشى مع التناقضات الفكرية السابقة. فالإنسان الليبرالي ملزم إذا ما تبنى الليبرالية منهج حياة، أن يؤمن بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وأن يؤمن بل ويشرع القوانين التي تضع هذه الحقوق موضع التنفيذ, وأن يؤمن بالحريات الفكرية والمدنية, وأن يكون مواطناً بالمعنى الصحيح والكامل للمواطنة, وأن يؤمن بحقه في أن يختار من يحكمه من خلال انتخابات حرة ونزيهة, وأن يلتزم بمحاربة الانحرافات الاجتماعية؛ مثل الإثراء غير المشروع, وأن يحاسب المسؤولين والنواب الذين يستغلون مناصبهم, وأن ينبذ الواسطة التي تهدم الأسس القانونية للمجتمع والدولة... وغير ذلك مما يفرضه الفكر الليبرالي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الإنسان العربي لا يطيق كل ذلك بسبب نمط التربية وأسلوب التعليم اللذين يخضع لهما, ويوفران عليه المتاعب النفسية والحقوقية اللازمة لليبرالية, فإن الحقيقة المؤلمة التي لابد من الاعتراف بها هي أن العرب والليبرالية يصدق عليهما قول الشاعر العربي: لست منك ولست مني... فامض عني مفارقاً بسلام!