عرضنا في المقال السابق لرأي المعتزلة في مسألة الجبر والاختيار، منطلقين من الأصل السياسي الذي يقف وراء نظريتهم في ما عرف في علم الكلام بمسألة "خلق الأفعال". هناك إلى جانب آراء المعتزلة، رأي الجهم بن صفوان الذي يتهمه خصومه بالقول بالجبْر، في حين أنه لم يقل به كنظرية وعقيدة، وإنما كوسيلة مؤقتة لإدخال سلوك المسلمين الجدد في خراسان في حكم الشرع. كان الجهم أحد المعارضين للأمويين، وقد انخرط في ثورة مسلحة ضدهم، وكان أتباعه من هؤلاء المسلمين الجدد في خراسان الذين لا يعرفون العربية ولا يؤدون الفرائض والشعائر الدينية بسبب جهلهم لها. فطرح خصومه قضيتهم على أنهم ليسوا مؤمنين، فكان رد فعل الجهم بن صفوان أن قال بنظرية وصفها خصومه، من أنصار الأمويين، بأنها تقول بالجبْر. ولكي لا يسقط في هذا الذي اتهمه به خصومه ويكون مناصراً لـ"الجبر" الأموي ميز بين المجبور المضطر وبين المريد المختار. وقد نقل أبو الحسن الأشعري رأيه وعبَّر عنه حيث قال: "الذي تفرد به جهم القول... أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: الشجرة تحركت ودار الفلك وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس اللهُ سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك" (الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج1، ص 338) ومعنى ذلك أن المسلمين الجدد الذين لا يؤدون الشعائر الدينية بسبب جهلهم، هم من هذه الناحية في حالة اضطرار، وبالتالي فلا تجوز مؤاخذتهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبما أنهم بشر، خلق الله لهم القدرة على الفعل والإرادة والاختيار، فهم مطالبون بتحسين وضعيتهم والعمل للخروج من حالة الاضطرار التي هم عليها. أما الأمويون، وهم الطرف الآخر الذي يدخل ضمن "المفكر فيه" لدى الجهم، فهم غير مضطرين، يعرفون العربية (=القرآن) والحلال والحرام... الخ، وبالتالي فهم يفعلون ما يفعلون بالقدرة التي جعلها الله تحت تصرف إرادتهم واختيارهم، وإذن فهم محاسبون. وإذا شئنا تلخيص وجهة نظر الجهم بن صفوان من هذا المنظور قلنا: هناك الفعل الصادر عن ضرورة موضوعية كالجهل بالشيء وصاحبه في حكم "المجبور"، وهناك الفعل الصادر عن قدرة ومعرفة وصاحبه مختار ومسؤول. أما القول بأن ما صدر عن الأمويين من عسف وظلم واغتصاب للسلطة ثم رمي الكعبة... إلخ، إنما كان بـ"سابق علم الله"، بمعنى أن الله كان يعلم ما سيفعلون قبل أن يخلقهم، فهو قول يضعنا إزاء احتمالين: إما أن علم الله بقي كما كان قبل أن يهاجموا الكعبة وبعده مثلاً، وفي هذه الحالة إما أن نقول إن الله هو الذي أراد منهم ذلك قبل أن يفعلوه، فيكون هو الذي حتمه عليهم، وهذا غير معقول ولا يجوز. وإما أن يكونوا قد فعلوا ما فعلوا من تلقاء أنفسهم وبمحض إرادتهم، وفي هذه الحالة نتساءل: هل عَلِمَ الله هذا الذي فعلوه أم لا؟ فإذا علِمه فسيكون علماً مضافاً إلى علمه السابق، وهذا لا يجوز لأن علمه كامل لا يحتمل الإضافة! وأما إذا قلنا إنه لم يعلمه فإننا سنكون قد أضفنا إليه الجهل. وإذن فالحل المعقول الذي لا يجر إلى تناقضات ونقائض كتلك، هو أن نقول: إن الله خلق العالم بما فيه الإنسان حسب سنن وقوانين قدَّرها تقديراً، كحركة الفلك مثلاً. أما الإنسان فقد خلق له، أو فيه، قدرة بها يفعل وإرادة واختياراً، وأكثر من ذلك، بيّن له بواسطة الرسل وعن طريق العقل، سبيل الخير وسبيل الشر. والإنسان هو الذي يختار هذه أو تلك، فيفعل هذا أو ذاك. هنا، حين الفعل، يتدخل علم الله ليحكم بالحسن أو بالقبح، بالثواب أو بالعقاب. هناك جانب آخر، وهو أن في القرآن آيات تفيد "الجبر" وأخرى تفيد الاختيار. وحسب نظرية جهم، يمكن القول إن التي تفيد "الجبر" تعبر عن تجليات الضرورة التي خلقها الله في الكون، وإن التي تفيد الاختيار تعبر عن مظاهر حرية الإرادة والقدرة التي خلقهما الله في الإنسان. هذا عن رأي جهم، وموقفه أقرب إلى موقف المعتزلة. أما الأشاعرة وهم الذين نظَّروا لموقف "أهل السنة والجماعة" الذين بايعوا معاوية ووقفوا إلى جانب الدولة الأموية ضداً على الخوارج والشيعة والفرق المغالية، فقد حاولوا بناء رأي وسط، فعارضوا بعض الاصطلاحات التي استعملها المعتزلة والتي تفيد ظاهرياً معانيَ لا تتسق مع الخطاب الديني، مثل استعمال كلمة "خلق" في قولهم "خلق الأفعال" و"خلق القرآن" وكلمة "يجب" في قولهم "يجب على الله فعل الأصلح"...الخ. ولو تجنب المعتزلة استعمال هذه الكلمات وعبروا عن نفس المعنى الذي أرادوه منها بكلمات أخرى لا تشكل نشازاً في الخطاب الديني، لكان رد فعل أهل السُّنة والأشاعرة ضدهم أخف، خصوصاً والجميع يعترف لهم بدفاعهم المستميت عن عقيدة التوحيد الإسلامية ضد الديانات الأخرى خاصة المانوية. ينطلق أهل السُّنة ومن بعدهم الأشاعرة، في المسألة التي نحن بصددها هنا، من مبدأين: مبدأ "لا خالق ولا فاعل إلا الله". ومبدأ "الثواب والعقاب"، وهما مبدآن نص عليهما القرآن الكريم في آيات كثيرة صريحة لا لبس فيها. ولكي يجمع الأشاعرة بين هذين المبدأين، قالوا إن الأفعال التي يأتيها الإنسان يخلقها الله فيه، أما نتائجها فهو يكسبها، فيجازى عليها. وهكذا حافظوا على نسبة فعل "الخلق" إلى الله وحده، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعطوا لـ"الكسب" معنى واضحاً محدداً يبرر عقلياً تحمل الإنسان مسؤولية أفعاله، تلك التي يأتيها بالقدرة التي خلقها الله فيه! ولذلك اضطروا مع الزمن إلى تطوير نظريتهم في "الكسب" حتى غدت مطابقة أو تكاد مع رأي المعتزلة. ويمكن أن نسجل ثلاث مراحل في تطور وجهة نظرهم في هذه المسألة: أبو الحسن الأشعري، مؤسس المذهب، يرى "أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عُقَيب القدرة الحادثة، (أي التي يحدثها الله في الإنسان) أو تحتها أو معها، الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له، وسمى هذا كسباً، فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد حصولاً تحت قدرته". يريد أن القدرة التي يخلقها الله في الإنسان، عندما يقصد هذا الأخير فعل شيء، ليست مؤثرة تأثير العلة في المعلول، لأنها لو أثرت في الأفعال وكانت علة لها، والأفعال أعراض، لأثرت كذلك في الأعراض الأخرى فخلقت الروائح والطعوم... الخ، بل ولَتعدَّى تأثيرها إلى الجواهر والأجسام كذلك" (الأشعري مقالات الإسلاميين. ح1. ص99). أما القاضي الباقلاني مُنَظِّر المذهب، فقد حاول إدخال بعض المرونة على موقف الأشعري وإعطاء معنى أوضح قليلاً لمفهوم "الكسب"، إذ قال إن القدرة التي يحدثها الله في الإنسان لا تؤثر في إيجاد الجواهر والطعوم والروائح... الخ، ولكن لها مع ذلك تأثيراً في جهة من جهات الفعل هي المتعينة لأن تكون قابلة للثواب والعقاب. وبهذا تكون مؤثرة في حالة وغير مؤثرة في حالة أخرى. ذلك ما لم يستسغه إمام الحرمين الجويني، وهو من أكابر الأشاعرة، إذ رأى أن إثبات قدرة لا أثر لها بوجه، كما يقول الأشعري، هو كنفي القدرة أصلاً، أما إثبات التأثير لهذه القدرة في حالة دون أخرى، كما يقول الباقلاني، فشيء لا يعقل، لأن القول بهذا كالقول بنفي التأثير. من أجل هذا قال: "لابد من نسبة التأثير إلى فعل العبد وقدرته حقيقة"، لكن "لا على وجه الإحداث والخلق"، لأن الذي يخلق يشعر باستقلاله، كما أن الخلق يعني الإيجاد من العدم. والحال أن الإنسان، كما يشعر بقدرته على الفعل يشعر أيضاً بعدم استقلاله في فعله؛ "فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة العقل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب، فهو الخالق للأسباب ومسبباتها". ثم يضيف الشهرستاني الذي أورد ما ذكرنا قائلاً: "وهذا الرأي أخذه (=الجويني) من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام" (الشهرستاني الملل والنحل ج3 ص 97). والسؤال الآن: كيف حدث أن ضرب البابا صفحاً عن مثل الآراء -وهي معروضة في كتب المستشرقين، وقد عرضها ابن ميمون من قبل وبتفصيل في كتابه "دلالة الحائرين"- كيف جاز للبابا أن يعرض عن ذلك ليقتصر على تعليق متسرع وسطحي لناشر حوار الإمبراطور البيزنطي مع العالم الفارسي، البروفيسور خوري، تعليق يقول: "أما التعاليم الإسلامية فهي تقرر أن الله متعالٍ بشكل مطلق، وبالتالي فإرادته لا تخضع لتحديدات عقلنا نحن ومقولاته، بما في ذلك مقولة المعقولية". ونحن نسأل صاحب هذا التعليق: أليست الآراء التي ذكرنا للمعتزلة والجهمية والأشاعرة، محاولات جادة وعميقة لإضفاء المعقولية على مسألة من أصعب المسائل في الفكر الديني؟