قد لا يكون التغيير الأهم ولأبرز الذي أفرزته الانتخابات الأميركية الأخيرة مجرد فوز "الديمقراطيين" بأغلبية مقاعد مجلسيْ الكونغرس. خاصة وأنه من المعروف تقليدياً أن حزب الرئيس الأميركي يفقد في المتوسط 15 مقعداً في مجلس النواب وبضعة مقاعد في مجلس الشيوخ في الانتخابات النصفية. ولكن التغيير الأهم يكمن في ما سيطال الاستراتيجية الأميركية التي ستعاد صياغتها لتستجيب لتململ الناخب الأميركي، والتحديات التي سيفاقمها تحدي أعداء أميركا ودول "محور الشر" التي قرأت هي أيضاً نتائج الانتخابات -بشكل صحيح أو مغلوط- على أنها رفض للمغامرات والأحادية في اتخاذ القرارات ولاستخدام العصا الغليظة والعقوبات. لاشك أن النتيجة المزلزلة والكارثية كانت أسوأ مما توقع حزب الرئيس بوش الذي يشعر بخيبة الأمل ويتحمل مسؤولية النتائج كما اعترف، خاصة وأن 40% من الناخبين كانت أصواتهم كما صرحوا ضد الرئيس بوش شخصياً بسبب سياساته ونتائجها غير المرضية، مما انعكس سلباً على المرشحين "الجمهوريين". والسؤال الكبير الآن: هل من تغيير قادم على الاستراتيجية الأميركية وخاصة في منطقتنا المأزومة من العراق إلى الصراع العربي- الإسرائيلي، ومن إيران إلى أفغانستان؟ ثم كيف يقرأ حلفاء وأعداء واشنطن هذه النتائج؟ وكيف ستؤثر النتائج على فكر وإيديولوجية "المحافظين الجدد" الذين اختطفوا السياسة الخارجية الأميركية وأمسكوا بزمامها خلال السنوات الست الماضية؟ وتحكموا بزعامة عرابهم نائب الرئيس تشيني في قرارات الرئيس بوش في الشؤون الخارجية. الجميع يتساءل هل فقدوا دورهم وهل تراجعت هيمنتهم وسطوتهم وهل سيدفعون الثمن، خاصة أنهم زينوا للرئيس بوش الكثير من التدخلات في العراق وأفغانستان ونشر الديمقراطية ومحاربة الطغاة، وغيرها من مبادئ إيديولوجية. هل هي إذن نهاية للرؤية التي انتهجها "المحافظون الجدد"؟ تلك الرؤية المفرطة بالمثالية والتي عملت تحت غطاء كبير مغلف بإيديولوجية غير مسبوقة تدعمها نزعة إنجيلية غارقة في المثالية المدعومة بالقوة الطاغية؟ لقد جر "المحافظون الجدد" على العالم بتنظيرهم الخاطئ الويلات والدمار والارتهان وسرعوا بتحويل الرئيس بوش إلى ضحية لأحلامهم وشطحات خيالهم، حيث بات رئيساً ينظر إليه على أنه بنجم آفل وهو ما يعرف في المصطلح الأميركي بعبارة "البطة العرجاء". لكن، في المقابل، لا يجوز التمادي والمبالغة في ضعف وتراجع قدرات ونفوذ الرئيس بوش وحزبه، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة وصانع السياسة الخارجية مع فريقه الذي يقترب من تغيير فريق الأمن الوطني، وخاصة مع عودة الفريق المعتدل والواقعي من عصر بوش الأب لنجدة بوش الابن المحاصر، لإعادة السياسة الخارجية الأميركية إلى المسار بحيث تنتهج نهجاً عملياً برغماتياً وواقعياً وبعيداً عن النهج الإيديولوجي الكارثي الخطر الذي أساء لأميركا ومصالحها ولم يخدم أمنها، وساهم في تراجع سمعتها وسقوط هيبتها وتقليص احترامها حول العالم. إن الخطر والخوف أن يبالغ أعداء أميركا في تراجعها وانكفائها وترددها بالدفاع عن مصالحها. فـ"الديمقراطيون" لا يقلون إصراراً عن "الجمهوريين" في رفضهم للهزيمة في العراق أو في القبول بإيران نووية، كما لا يقلون همة في الدفاع عن المصالح الأميركية، ولكن مقاربتهم وأسلوبهم مختلفان وغير تصادميين، ويجب عدم تفسير ذلك على أنه ضعف أو تهاون. ولكن هذا التصور قد يدفع المقاتلين في العراق والجناح المتشدد في إيران و"كيم يونج إيل" الزعيم الكوري الشمالي و"القاعدة" والمنظمات المعادية لأميركا لتحدي أميركا أكثر في غير منطقة وقضية واللجوء إلى التصعيد على أمل الاستفادة من التراجع وما يرونه ضعفاً وتراجعاً مع إزاحة رامسفيلد ووصول الواقعيين إلى السلطة. فهل انتهت حقاً حقبة "المحافظين الجدد"؟