هناك حركة صغيرة غير أنها دالة تمت على جبهة السلام الأسبوع الماضي، وذلك عندما فجرت ثلاث دول أوروبية هي فرنسا وأسبانيا وإيطاليا مفاجأة بإعلانها عن إطار لخطة سلام جديدة بين العرب والإسرائيليين لم تتردد إسرائيل في رفضها على الفور. وكانت "الجريمة" التي ارتكبتها تلك الدول في نظر إسرائيل هي أنها، قد أعدت تلك الخطة وأعلنتها دون تنسيق مسبق مع الحكومة الإسرائيلية. بدأت المسألة كلها يوم الخميس الماضي الموافق 16 نوفمبر الحالي الذي كان يوافق موعد الاجتماع السنوي للقمة الفرنسية- الأسبانية والتي عقدت هذا العام في مدينة "جيرونا" الكاتالونية. والمبادرة الأخيرة جاءت من طرف رئيس الوزراء الأسباني "خوزيه لويس رودريجز ثاباتيرو" الذي حصل على دعم لهذه للخطوة من جانب الرئيس الفرنسي جاك شيراك، قبل أن يهاتفا رئيس الوزراء الإيطالي "رومانو برودي" يوم الاثنين ويحصلا على موافقته على تلك الخطة. وقد أدلى" ثاباتيرو" بتصريح جاء فيه أنه يأمل في الحصول على مساندة رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" والمستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" على الخطة المزمع تقديمها إلى اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي الذي يعقد الشهر القادم. ويعتقد على نطاق واسع أن مهندس هذه الخطة هو وزير الخارجية الأسباني "ميجيل موراتينوس" الذي انخرط في شؤون المنطقة لعدة سنوات، أثناء فترة عمله كمبعوث للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط. والخطة كما جاءت على لسان "ثاباتيرو"، تتضمن خمسة مكونات رئيسية: إيقاف جميع أعمال العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين بما في ذلك الأعمال "الإرهابية". تشكيل حكومة وحدة وطنية في فلسطين. تبادل السجناء بما في ذلك الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليت" المختطف على أيدي "حماس" وعدة عشرات من النواب والوزراء الفلسطينيين. يعقب هذه المراحل الثلاث عقد اجتماع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من أجل تمهيد الطريق لنشر قوة دولية تضطلع بـ"مهمة مراقبة". ويتبع هذه الخطوة عقد مؤتمر سلام دولي (في المدى المتوسط). وتلزم الإشارة هنا إلى أن "ثاباتيرو" قد وصف مبادرته بأنها عبارة عن "تمرين على تحمل المسؤولية يجب على جهة ما أن تبدأه، لأن التدهور في الموقف قد وصل إلى حد خلق حاجة ماسة إلى عمل عاجل من جانب المجتمع الدولي". ووجهة النظر الأسبانية هي أن "خريطة الطريق" الخاصة بالشرق الأوسط على النحو الذي رسمتها به الرباعية الدولية، (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا والأمم المتحدة)، قد أصبحت ميتة الآن. وبعد أن كان من المفترض أن تؤدي تلك الخريطة إلى إقامة دولة فلسطينية بحلول ديسمبر 2005 فإنها لم تعد صالحة الآن وأصبح الأمر يتطلب أن تخلي الطريق لمبادرة جديدة. هل ستتمكن مبادرة السلام التي أطلقها ثاباتيرو من التحليق؟ في الوقت الراهن يبدو هذا الأمر غير مرجح إلى حد كبير بسبب اعتراض إسرائيل على الخطة حيث كانت ولا تزال تصر على أن تظل مسألة تحقيق السلام مع الفلسطينيين في أيدي الأميركيين حصرياً، وترفض تدخل الأوروبيين في هذه المسألة لأنهم "مؤيدون للفلسطينيين" في رأيها. منذ سنوات بعيدة وتحديداً في عام 1975 قطع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي آنذاك على نفسه عهداً لإسرائيل -لا يزال سارياً حتى الآن- مؤداه أن الولايات المتحدة لن تقوم بأي مبادرة في الشرق الأوسط دون أن تقوم أولاً ببحثها بالتفصيل مع إسرائيل والحصول على موافقتها عليها. وكانت نتيجة ذلك أن أميركا منحت إسرائيل نفوذاً على سياستها في الشرق الأوسط. أيضا تعارض إسرائيل بقوة أي وجود دولي في الأراضي المحتلة خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى الحد من قدرتها على اغتيال الناشطين الفلسطينيين، وقصف وغزو والإغارة على أراضيهم حسبما تريد. فإسرائيل تريد أن تتمتع بحرية مطلقة في التعامل مع ما تطلق عليه "الإرهاب" الفلسطيني حسبما ترى ودون أي عائق. وأخشى ما تخشاه إسرائيل أن توحد الولايات المتحدة وأوروبا جهودهما، وتتفقا على فرض تسوية على طرفي النزاع تتضمن انسحاباً إسرائيلياً إلى حدود عام 1967. ليس من المتوقع أن يحدث أمر مثل هذا طالما ظل الرئيس جورج بوش في منصبه، وهو ما يرجع في المقام الأول إلى حقيقة أن الموضوع الذي يأتي على رأس قائمة أولويات بوش في الوقت الراهن هو حرب العراق، التي تشير كافة الدلائل المتاحة إلى أن أميركا بصدد خسارتها. فهو يكافح من أجل التوصل إلى مخرج مشرف من الورطة العراقية، وهو مخرج قد يقتضي إرسال المزيد من الجنود الأميركيين إلى بلاد الرافدين في المدى القريب. وبوش ليس مقتنعاً بحجة "بلير" القائلة إن الحاجة تدعو إلى "استراتيجية شاملة للشرق الأوسط" أي إلى نهج شامل يؤدي حل الصراع العربي- الإسرائيلي في إطاره، إلى المساعدة على جعل موقف التحالف في العراق أفضل حالاً. ومما يشار إليه في هذا السياق أن "المحافظين الجدد" الموالين لإسرائيل، والذين اضطلعوا بصياغة سياسة أميركا في الشرق الأوسط منذ الحادي عشر من سبتمبر، والذين لا يزال نفوذهم قوياً حتى لحظتنا هذه، يرفضون أي ربط بين المسألة العراقية وبين الصراع العربي- الإسرائيلي، لأنهم يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تكون لها الحرية في حسمه وفقاً لشروطها. أما بالنسبة لموقف المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" من تلك المبادرة فهو الإحجام. يرجع هذا إلى أن ميركل الواعية تماماً بموضوع الفظائع النازية في الماضي ضد اليهود، تحجم عن التصديق على أي مبادرة، قد تبدو وكأنها تتضمن ضغطاً على إسرائيل. والأمر مختلف مع "القوى الأوروبية الثلاث": فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، التي تتبنى رؤية مختلفة. فهذه القوى تشعر بأنها معنية بشكل مباشر بصراع الشرق الأوسط، الذي تخشى تلك القوى أن تمتد آثاره إلى حدودها. ولعل هذا هو ما دفعها إلى إرسال قواتها للمشاركة في قوة" اليونيفيل" التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بحفظ السلام في لبنان. وهذه الدول التي نفد صبرها تجاه سياسة الذراع الطويلة التي تنتهجها إسرائيل، والتي تأثرت مشاعرها بسبب معاناة الفلسطينيين، تؤمن بأن مبادرتها لها ما يبررها سواء من الناحية الأخلاقية البحتة أو من ناحية المصالح السياسية. ولكن هل تستمتع واشنطن لما تقوله تلك الدول؟ سيتعين الانتظار كي نتمكن من الإجابة على هذا السؤال، بيد أن الشاهد هو أن تلك الخطة التي أعلن عنها في مدينة "جيرونا" لم تلقَ سوى رد فعل خافت للغاية داخل الولايات المتحدة.