ظلّ المثقفون العرب –كعادتهم- في مواقف متباينة من الشأن الإيراني بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وإنشاء الجمهورية الإسلامية على مبدأ "ولاية الفقيه"، فكان المولعون بالثورات والتغيير من اليساريين مندهشين ومؤيدين للثورة، وكان رموز الإسلام السياسي يتهافتون على طهران للتهنئة بالثورة وبعضهم كان من رموز "الإخوان المسلمين" في الخليج، وكان البعض يبدي تخوّفاً ووجلاً من طموحات الثورة التي كانت تبشر منذ البدايات بمبدأ "تصدير الثورة" الذي كان يعني أول ما يعني تهديد الدول الخليجية القريبة من إيران والتي تتواجد بها أقليات شيعية. كان هذا التحليل وهذه التناقضات قبل ربع قرن تقريباً، حين كانت الثورة الإيرانية طريّة غضّة، يحيطها الغموض أكثر مما يجلّيها الوضوح، تخفي أهدافها الحقيقية خلف شعارات رنّانة وأفكار برّاقة، وحين نحرق مسافة ربع قرن من الزمن وصولاً إلى اللحظة الراهنة، نجد كثيراً من الغموض قد زال وكثيراً من الأهداف والغايات الإيرانية قد تكشفت، وتجارب إيران في تصدير ورعاية "أحزاب الله" في المنطقة أصبحت مكشوفة ومعلنة، وعمل إيران على بسط نفوذها على المنطقة العربية، وخصوصاً على دول الخليج ودول الشمال الشرقي العربية أصبح ظاهراً غير مستتر، تشي به الحركات والتصرفات والتصريحات واللقاءات، سواء من داخل إيران وقياداتها السياسية والدينية أم من خارجها من مسؤولين عرب كبار لديهم رؤية استراتيجية واعية للمخطط الإيراني في المنطقة، أم من مسؤولين دوليين دخلوا على الخط في المفاوضات العالمية الجارية بخصوص إيران وخطر مشروعها على المنطقة. كان من آخر تلك التصريحات ما نقلته صحيفة "الشرق الأوسط" في عددها رقم 10217 بتاريخ 18 نوفمبر 2006، على لسان رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي من (أنه تسلم رسالة من الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يعلن فيها الأخير استعداده للتعاون مع إيطاليا لإرساء "السلام والاستقرار في الشرق الأوسط"، إلا أنه ربط هذا التعاون بشرط الاعتراف بــ"أهمية إيران الإقليمية"). إن ما تسعى إليه إيران من خلال عملها على الأرض ومن خلال هذا التصريح وتصريحات مشابهة له ومن خلال مشروع بناء قوة عسكرية ضاربة تتوجها بمشروع نووي وقنبلة نووية لم يعد سراً من الأسرار، فهي تسعى لفرض هيمنتها على الأرض وإجبار دول المنطقة على الخضوع لشروطها، والمشروع الإيراني لم يكن يوماً موجّهاً لإسرائيل ولا تطمح إيران أن تكون عدواً مباشراً لإسرائيل فضلاً عن أن تفرض عليها شروطها، لكنها تطمح أن تفرض نفوذها على المنطقة العربية وأن يتم الاعتراف لها دولياً بهذا النفوذ لتتمكن من تمرير إرادتها على دول المنطقة. هذا باختصار هو الطموح الاستراتيجي الإيراني بعيداً عن الشعارات البرّاقة التي تطلقها هنا وهناك، والسؤال المطروح اليوم هو ما دور المثقفين العرب –غير الخليجيين- في مواجهة هذا المشروع؟ ما هو واجبهم تجاه دول عربية شقيقة تتمثل في دول مجلس التعاون الخليجي؟ ما هو واجبهم تجاه شعوب دول الخليج العربية؟ كنت أقلِّب مثل هذه الأفكار منذ مدة غير قصيرة، وأشعلتها ندوة "وجهات نظر" التي أقامتها صحيفة "الاتحاد" لكتابها، وشارك فيها عدد كبير من المثقفين العرب وقد أشرت لها في المقال السابق. اختلفت الآراء في أروقة الندوة، وعلت بعض التعليقات حتى بلغت الفضاء الأعلى وثارت الثريا غيرة من علوّها، وتدنّى بعضها الآخر حتى غارت المغارات من ضيقه ودنوّه، وبقي الأكثرون عقلانيين متزنين، لم يحلقوا في الأفلاك ولم تعتقلهم الأسلاك. كان في الندوة كلام طويل الذيل، فيه أسئلة حائرة، وفيه أجوبة مكابرة، وفيه فنتازيا فكرية ألقاها بعض المفكرين العرب الكبار! وفيه عقلانية راسخة القدم عالية الهامة واسعة النظر، وفيه قلق خليجي معلن وجريء، وفيه مبالاة ولامبالاة فكرية عربية، وخرجت في الندوة بعض ديناصورات القومية العربية والإسلامية البائسة لتثبت للجميع أن تطوّر العقول لا يعني انقراض أضدادها. حرصت بعد الندوة على متابعة ما يكتبه المثقفون العرب من غير الخليجيين حولها، وكان أكثر ما لفت انتباهي مقالين كريمين خطهما قلم الدكتور إبراهيم البحراوي نشرا يوم الثلاثاء الماضي 14 نوفمبر 2006، أحدهما في "وجهات نظر" بصحيفة "الاتحاد"، والآخر في صحيفة "المصري اليوم"، عرض فيهما الدكتور إبراهيم للقلق الخليجي من الخطر الإيراني وتذكّر مشكوراً أن دول وشعوب الخليج كانت دائماً وعلى طول تاريخها تقف صفاً واحداً مع إخوانها في عمقها العربي في أزماتهم طويلة الذيل مع إسرائيل وفي غيرها من الكوارث التي تستدعي تكاتف الإخوة ودعمهم، تلك الوقفات الخليجية كان يمليها وازع ذاتي يدفعه القيام بالواجب ويغذيه صدق الانتماء، وتزيده المصالح الراجحة في التكاتف مع العمق العربي الطبيعي لدول الخليج العربية. وكما ذكر الدكتور إبراهيم في مقالته في صحيفة "المصري اليوم"، فقد "كان في مقدور هذه الدول -الخليجية- نتيجة للبعد الجغرافي عن منطقة النزاع مع إسرائيل بحوالى ألفي كيلو متر أو أكثر أن تنأي بنفسها عن الدخول في جولات الصراع العربي- الإسرائيلي فالبعد أو القرب الجغرافي عنصر مؤثر ومحدد لدرجة الاهتمام والتفاعل والتدخل، لقد كان اندماج عرب الخليج في دعم معاركنا المتعددة عسكرياً وسياسياً مع إسرائيل تجاوزاً لجبريات الجغرافيا وانحيازاً لمقتضيات الالتزام العربي وتلبية لنداء الهوية العربية". عرب الخليج بحاجة إلى اصطفاف عمقهم العربي معهم في مواجهة الخطر الإيراني، وبحاجة لدعم المثقفين العرب تحديداً لهذا التوجّه، ذلك أن سنوات طويلة والدول العربية وشعوبها وخصوصاً المحيطة بإسرائيل لا ترى خطراً على الدول العربية إلا في إسرائيل، ويعشي رؤيتها للخطر الإيراني الانحياز الأميركي غير المشروط للطرف الإسرائيلي في المعادلة، وتغيير مثل هذه الرؤية والتعايش مع هموم شريحة كبيرة من الشعوب العربية التي تقطن في دول الخليج واجب أخلاقي وفريضة مصلحيّة تمليها مبادئ عربية راسخة في الوفاء والنصرة والدعم. إن أهمية تفهّم المثقفين العرب للقلق الخليجي المعلن من الخطر الإيراني تكمن في أن هؤلاء المثقفين يخاطبون الرأي العام في بلدانهم، وهم قادرون –إن أرادوا- على توجيهه نحو تفهّم هذا القلق أولاً وتبنيه ودعمه ثانياً. الدول الخليجية قادرة بمقدراتها الذاتية واستراتيجياتها المرسومة وتحالفاتها الدوليّة على مواجهة هذا الخطر، ولكنها بحاجة لعمقها العربي بساسته ومتخذي القرار فيه وهؤلاء للوصول إليهم طرق مسلوكة وجوادٌّ معروفة، لكن الوصول لهذا العمق العربي بمثقفيه ومواطنيه بحاجة إلى جهد في الشرح والتوضيح والإفهام، ولتحقيق هذه الغاية الأخيرة لم تقم دول الخليج بما يكفي لهكذا توضيح، وكان الواجب عليها تبني ورعاية مشاريع ثقافية، ودراسات وأبحاث توصل القلق الخليجي من الخطر الإيراني بأوضح صورة، عبر كتب ومقالات وبرامج فضائية حوارية ووثائقية وأعمال درامية وغير ذلك من السبل المعروفة للوصول للرأي العام. الخطر الإيراني على دول الخليج لا يهدد مواطني دول مجلس التعاون فحسب، بل يعني أيضاً كثيراً من المقيمين العرب الذين جاءوا منذ عقود لهذه الدول بحثاً عن اللقمة الحلال في أوطان تشهد ازدهاراً تنموياً وتضمن حياة كريمة لمن يعيش فيها، ولا أحسب أن الدول العربية قيادات وشعوباً قادرة على تناسي هؤلاء أو التغاضي عن مصالحهم.