جاء حديث الرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني إلى قناة "العربية" بطهران مساءَ الأربعاء، قبل عودته إلى لبنان بساعات، ليزيد من اتّساع الأزمة، ويبْلُغَ بها أقصى الذرى أو أسفلَ الدركات. إذ انضمَّ إلى الرئيس لحود والجنرال عون في الذهاب إلى أنّ حكومة الرئيس السنيورة تخالفُ الميثاق الوطني اللبناني؛ بسبب غياب الفريق الشيعي عنها؛ ولذلك فإنّ اجتماعها يوم الاثنين الماضي هو غير دستوري. والرئيس بري بذلك يُعطي لنفسه الحقَّ في عدم احترام قرار مجلس الوزراء بشأن تشكيل المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري، عندما يحيلُهُ مجلس الوزراء عليه طالباً انعقاد جلسة لمجلس النواب لمناقشته بهدف تحويله إلى قانونٍ يُعادُ إلى مجلس الأمن من أجل الإبرام والتعاقد. لكنْ كان معروفاً من قبل أنه حتى لو اعتبر القرار دستورياً فلا شيءَ يُلزمُهُ دستورياً أيضاً بعقد الجلسة في زمنٍ محدَّد. وهكذا ستبقى الكرةُ في ملعبه، وسيكونُ مسؤولاً عن عدم تمكن المجلس النيابي من القيام بوظيفته التشريعية في هذه المسألة الحسّاسة جداً بالذات. إنّ التفسير الوحيد الممكن لتصرف الرئيس بري هو الضغطُ الإيرانيُّ/ السوريّ، لِسَدِّ المنافذ على المحكمة، إن أمكن. بيد أنّ الرئيس بري في حديثه ذاك إلى "العربية" يملكُ تفسيراً آخَرَ لتصرفه: عدمُ رضا الأكثرية الحكومية والنيابية بمشاركة الفرقاء الآخرين، مما اضطر الأقلية إلى الانسحاب والتوتير! وهذا بدوره غير صحيح طبعاً، لأنّ قرارات مجلس الوزراء اللبناني خلال خمسة عشر شهراً من رئاسة السنيورة اتُخذتْ كلُّها بالتوافُق أو بالإجماع، وما مرَّ شيءٌ حتى دون موافقة رئيس الجمهورية، حليف الحزب وعون أيضاً! بدأت الأجواءُ بالتغير بعد حرب تموز مباشرةً، حين انضم الحزب والحركة، إلى الجنرال عون، في المطالبة بحكومة وحدةٍ وطنية. وقد فسّر السيد حسن نصرالله هذا المطلب في حديثه الأخير إلى قناة "المنار"؛ بأنه يعني أن تمتلك "الأقلية" المكوَّنة من الحركة والحزب (مضموماً إليهما الجنرال عون) الثلث المعطِّل (سمّاه السيد نصر الله: الثلث الضامن!)، أي أن يصبح عددُ وزراء الأطراف الثلاثة ثلث الحكومة+1؛ بحيث لا يمكن اتخاذ قرارٍ في مجلس الوزراء دونما موافقتهم بحسب الدستور، كما أنّ مجلس الوزراء لا ينعقدُ بغيابهم، وتسقُط الحكومةُ إن استقالوا منها. يومَها ظنَّ كثيرون أن المقصودَ مكافأة الجنرال عون حليف الحزب، والذي وقف معه سياسياً في الحرب أيضاً. ولأنّ مسوَّدة الاتفاقية بشأن المحكمة، كانت ما تزال تتعثر في الأروقة القانونية لمجلس الأمن بسبب الاعتراضات الروسية الكثيرة؛ فقد ظنَّ كثيرون أيضاً أنه ربما يُضاف إلى هدف مكافأة الجنرال عون، محاولة "حزب الله" الالتفاف على إثارة موضوعات في مجلس الوزراء تمسُّ تطبيق القرارات الدولية بشأن لبنان؛ وآخرها وربما أهمّها القرار رقم 1701. ووحدهم أنصار سوريا في لبنان كانوا يؤكّدون حتى خلال حرب تموز، أنّ على فريق 14 آذار نسيان المحكمة الدولية، لأنّ سوريا والمقاومة لن يقبلا بها! في هذا الجوّ الذي بدأ يتجه للتأزُّم دعا الرئيس بري أطراف الحوار الوطني السابق (14 عضواً) إلى الاجتماع للتشاوُر في موضوعين: تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية، والبحث في قانونٍ جديدٍ للانتخاب. وكانت حجته في ذلك أنّ التأزم السياسيَّ يتزايد، وأنّ هذين الموضوعين خلافيان؛ ولذلك لابد من الاجتماع والحوار. وبسبب الخلفيات التي ذكرتُها؛ كان همُّ فريق 14 آذار مَنْعَ الوصول إلى الثلث المعطِّل، حتى لا تتعطَّلَ أعمال الحكومة إن شاء الآخرون، مع التساهل في مسألة إدخال وزراء للجنرال عون إلى مجلس الوزراء. بدأت أعمالُ التشاور بين الأطراف في 6/11، وما سارت جيداً؛ لكنها استمرت حتى بعد ظُهر الخميس في 9/11، وأجّلها الرئيس بري إلى السبت في 11/11 لمتابعة التشاور. لكنْ في آخر ليلِ الخميس وصلت مسوَّدةُ مشروع المحكمة إلى الرئيس السنيورة، فأرسلها في ضحى الجمعة إلى الرئيس بري ورئيس الجمهورية، فتغيرت الأجواء تغيراً هائلاً. إذ انكشف أنّ المقصود من توتير الحزب ما كان مكافأة عون فحسب؛ بل التأهُّل لتعطيل أعمال الحكومة إن دنت ساعةُ إقرار المحكمة. ولذلك، وبعد أن علم برّي والحزب ولحود أنّ السنيورة يعتزم عقد جلسةٍ لمجلس الوزراء لمناقشة مشروع المحكمة في أوائل الأسبوع التالي، سارع وزراء الحزب والحركة للاستقالة بعد ظُهر السبت في خطوةٍ مستميتةٍ لمنع المجلس من الانعقاد. يوم الأحد قال لحود إنّ المجلس لا يمكن أن ينعقد دون موافقته. ويوم الاثنين قال ثانيةً إنّ المجلس صار غير شرعي. ويوم الثلاثاء كتب إلى مجلس الأمن إنّ قرار مجلس الوزراء غير الشرعي غير دستوري. وتبعه بري في حديثه على "العربية" يوم الأربعاء، بعد أن كان قد زعم غير ذلك عشية الاثنين! لماذا هذه الاستماتة في منع إقرار مسوَّدة المحكمة؟ الإجابةُ بسيطة: لأنّ دمشق تتضرر من ذلك. وطهران حليفة دمشق من سنواتٍ وسنواتٍ وهي تُريدُ حمايتها من طريق الوزراء الشيعة الموالين لها. لكنّ السؤالَ الأهمّ هو: لماذا وافقت روسيا أخيراً على مشروع المحكمة، بعد اعتراضاتٍ دامت لأكثر من شهر؟! هنا يحسُنُ الاستطرادُ بعض الشيء، والعودة إلى أحداث العالم وتأثيراتها في المنطقة. فقد أظهرت إيران فَرَحاً عظيماً بهزيمة حزب الرئيس بوش في الانتخابات النصفية، واعتبرتها انتصاراً لها. وشجّع على تصديق طهران خروج لجنة بيكر/ هاملتون التي شكلها الرئيس بوش لمراجعة سياساته الفاشلة بالعراق باقتراحاتٍ من ضمنها إعطاء دور لإيران وسوريا في حلّ المشكلة هناك. وكان وفدٌ إيرانيٌّ برئاسة لاريجاني المسؤول عن الملفّ النووي الإيراني قد ذهب إلى روسيا (المعترضة حتى الآن على طبيعة العقوبات ضد طهران بمجلس الأمن)، وفشل في إقناع الروس بالموافقة على استمرار التخصيب بإيران. وفي الوقت نفسه ألغى وزير الخارجية الإيراني زيارةً لروسيا لإعلان الأخيرة عن تأجيل تسليم مفاعل نووي صغير لإيران للأغراض السلمية تعاقدت عليه قبل سنوات. وأُعلن أنّ الرئيس بوش سيزور موسكو للاحتفال بإدخال روسيا إلى منظمة التجارة العالمية. وعرضت موسكو على مصر مساعدتَها في مجال توليد الطاقة النووية للأغراض السلمية. ووافقت موسكو بعد طول اعتراض على مسوَّدة النصّ الضروري لإنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري. وهذا كلُّهُ في الوقت الذي كانت فيه الوفود الأوروبية تتقاطر على سوريا (وآخِرُها الوفد البريطاني) عارضةً عليها الدخولَ في العملية السلمية، والابتعاد عن طهران، وتقدمت باتجاه النجاح المفاوضاتُ على حكومة الوحدة الوطنية في فلسطين بعد طول تجاذُبٍ وفشلٍ أيضاً. وإذا علمنا أنّ إيران ليست دولةً عظمى؛ بل إنها محسوبةٌ من الناحية الاستراتيجية على روسيا؛ فإنّ معنى ذلك أنّ أبرز الجديد في السياسات الأميركية، ليس الاتجاه للتسليم لإيران بدورٍ في المنطقة؛ بل العودة إلى مشاركة روسيا، مثلما كانت تشاركُ من قبل الاتحاد السوفييتي، لكنها كانت في ذلك الوقت، أي زمن الحرب الباردة، مرغمة. أمّا الآن فهي تُعدّلُ خياراتها مع التعديل التدريجي لسياساتها الخارجية في إدارة بوش الثانية. لا يمكن الحديث عن علاقات طيبة لإيران بـ"المحافظين الجدد" في إدارة بوش الأولى. لكنها أفادت كثيراً من حقبتهم التي طالت خمس سنوات. فقد كانت أولويتهم بالمنطقة الحرب على الإرهاب، وقد خاضت أميركا الحرب في أفغانستان والعراق، وحاصرت العرب جميعاً إمّا بحجة الأصولية والتطرف، أو بحجة التحويل القسْري إلى الديمقراطية. وفي تلك الحقبة جرت مهادنةُ إيران بل التعاوُن معها أحياناً. وهكذا كسبت طهران نفوذاً في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان.. وفلسطين. ولذلك أيضاً فإنّ التغيير في السياسات الأميركية الفاشلة، والتي استعْدتْ المحايدين، وأدّت إلى الجفاء مع الحلفاء، سيضر بإيران ولن يفيدها. ولذلك ظهرت مخاوفُ إيران علناً، واتجهت لامتشاق السلاح في وجه الولايات المتحدة، حتى في الأماكن التي ما مارستْ فيها عنفاً طوال السنوات الخمس الماضية، مثل العراق (زيادة المذابح من كل نوع)، ولبنان (حرب تموز)، والمناورات التهديدية المتبادَلة بالخليج. الولاياتُ المتحدة تتخلّص من المسؤولين عن خسارتها (وآخِرهم رامسفيلد)، وتعيد الاتصال والتعاون والتشارك مع الحلفاء المجفوَّين (دول الاتحاد الأوروبي)، ومع المنافسين السابقين (روسيا). وإيران يشتدُّ توتُّرُها وتتوعد الولايات المتحدة بالهزيمة (على لسان خامنئي)، وأين؟ في لبنان! ولذلك فإنّ المنتظر أن يشتدَّ التجاذُب على نظام الأسد الضعيف، وعلى لبنان، وعلى العراق.. وربما على فلسطين رغم التقدم باتجاه حكومة الوحدة الوطنية هناك! عندما كان نبيه بري يهدِّدُ فريق 14 آذار وحكومة السنيورة من طهران، قال أيضاً إنَّ الحلَّ في التشاور العربي- العربي، والعربي- الإيراني. هو يريد تعاوناً سعودياً – إيرانياً في لبنان. لكنّ هذا حتّى لو حصل فإنه سيستغرقُ شهوراً، وخلال ذلك ستظل الفرقعاتُ هنا وهناك، إشارةً إلى ضعف المحلّي في البلاد، وسيطرة الدولي والإقليمي. ولله في خَلْقه شؤون.