مثل أي طالب فاشل، لم يستعد جيداً لخوض الاختبار، ولم يحاول فهم واجباته جيداً، واعتمد على الفهلوة للنجاح، سقط بوش الصغير في امتحان رئاسة الإمبراطورية العظمى، وكسر لعبة الحكم التي أهداها إليه والده. سقط لأنه اعتمد على الكذب والخداع والغباء والتطرف وهواة السياسة والراديكاليين من المحافظين الجدد في إدارة سياسته الخارجية، وحاول استغباء الشعب الأميركي والضحك عليه تحت ستار الأمن، بينما الشعوب على تنوعها ليست بالغباء الذي يحسبه الحكام، فما بالنا بشعب الإمبراطورية المهيمنة على قدر العالم. الشمشون بوش الصغير دمر المعبد فوق رأسه ورأس حزبه الجمهوري، بعد أن فكك العراق، ودمر لبنان، وقضى على أفغانستان، ورفع أسعار النفط، وأطلق يد إسرائيل لتبيد الشعب الفلسطيني، واستسلم للإرادة الإيرانية وتوجهها النووي، وجعل كوريا الشمالية قوة نووية، وتنكر لحلفائه في أوروبا، وفقد أقرب مناصريه في أميركا الجنوبية، وتخلى عن وعوده كلها للشعوب العربية، ودفع العالم بأسره لكره أميركا وشعبها، وأفلست في عهده شركات أميركية عملاقة، ورفض المصادقة على معاهدة كيوتو، وتخلى عن خطط الحد من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون من محطات الطاقة، وتعامل بتهاون وعدم اكتراث مع القرارات والاتفاقيات الدولية؛ فأصبح كثيرون ينظرون لأميركا باعتبارها معادية للأمم المتحدة، ورفض الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية فدفع العالم إلى التعرف على نفاقه وحمقه، خاصة عند الأخذ في الاعتبار أن احترام القانون يعتبر أمراً جوهرياً وأساسياً في التقاليد الأميركية. كما جاء رفض بوش وإدارته التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ليؤكد ازدواجية معايير واشنطن بإصرارها على حقها في تتبع الإرهابيين والمجرمين السياسيين دولياً. ورغم أنه يتغنى بالديمقراطية فإنه كان ديكتاتوراً في سياسته الخارجية، لا يستمع سوى لمن استغلوا غباءه السياسي وتعصبه الأحمق وجهله بشؤون السياسة العالمية، فوافق عندما كانت هناك مصلحة في الرفض، ورفض عندما كان الأصح هو الموافقة، خالف واختلف لا لسبب سوى أنه الإمبراطور الصغير الأوحد الذي أهداه والده كرسي الرئاسة فلم يحافظ عليه. فشل عندما اختار طريق الخراب لمحاربة العالم، وفشل حين اعتبر الدمار طريق الإصلاح، وفشل مرة أخرى عندما أصر على ذلك ولم يستمع لصوت العقل، وزاد فشله عندما جمع حوله مجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الأغبياء الذين لا همَّ لهم سوى تفكيك الكون لصالح الدولة العبرية. من يتابع المشهد السياسي داخل الولايات المتحدة الأميركية يلاحظ دون صعوبة سجل بوش الصغير الحافل بممارسات الخداع والتدليس والكذب التي مارسها وفريقه في الإدارة الأميركية، وتضمنت خطة الخداع تدابير عدة من خلال إعداد ملاحم بطولية مطولة تتغنى بشخصية بوش المستقيمة والمبهرة، وأجندته المبتكرة التي ستأتي للارتقاء بمستوى الأميركيين الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وتخفيف الضرائب، وتوفير الأمن والرعاية الاجتماعية والصحية الفائقة والمتميزة للأميركيين جميعهم، غير أن ما تحقق على أرض الواقع كان مغايراً بصورة محبطة كونه غير مؤهل للرئاسة، ومحدود الثقافة، وصاحب خطة عمل فاشلة، فضلاً عن عدم تمتعه بشخصية صادقة وأمينة. إن الأزمات لا تخلق رئيساً قوياً، وإنما تقدم الفرصة المناسبة لنحكم على مدى قوة الرئيس أو ضعفه. ولكن بوش الصغير وإدارته استغلا الأزمات في إعادة الولايات المتحدة إلى الوراء عقوداً عدة، نتيجة لجهل بوش الصغير بالعالم من ناحية، ولعدم اقتصار أكاذيبه على الأمور البسيطة، بل امتدت لتشمل القضايا الأخطر في مصير العالم، ومن الغريب والمثير في آن واحد أنه إذا أمكنه تبرير الكذب على الحكومات الخارجية تحت زعم الأمن القومي، فإن كذب الرئيس على شعبه أمر لا يمكن تبريره مطلقاً. لقد حاول إقناع الرأي العام الأميركي بوجود أسلحة للدمار الشامل في العراق تستوجب شن الحرب ضده، بالإضافة إلى ادعائه وجود روابط بين العراق وتنظيم "القاعدة"، ومن ثم فإن للعراق علاقات بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فقد عمل بوش الصغير وفريقه على تصوير الواقع حسب رغبتهما وليس كما ينبغي أن يكون، وكان على أجهزة الإعلام الأميركية في تلك اللحظة ترديد ذلك، بل والإمعان في تكرار ما تقوله إدارة بوش الصغير كما لو كان حقائق لا مراء فيها. وتعمدت الإدارة الأميركية استخدام توصيفات "الخونة" أو "عديمي الوطنية" ضد من ينتقد البيت الأبيض والرئيس، في محاولة لإرغام الناس على إبداء طاعتهم العمياء للرئيس، وهو الأمر الذي يعد انتهاكاً في حد ذاته للقيم الأميركية والديمقراطية، وسرعان ما انكشف الكذب، وانهار الأمن والاستقرار في العراق ودفع الشعبان العراقي والأميركي ثمن الكذب. تمكن الرئيس بوش الابن من الهروب من تساؤلات واتهامات لامست قضايا تشمل وضعه في حرب فيتنام، والفساد أثناء ممارسة أعمال تجارية نشطة، وتعاطيه المخدرات، وقيادته السيارة مخموراً، وتغاضت وسائل الإعلام والمؤسسات الصحفية عن الروايات والحقائق المختلفة التي أحاطت ببوش الصغير بصورة لافتة للأنظار، وكأن الأمر متفق عليه فيما بينها. يعد الرئيس بوش الابن حالة فريدة ومتفوقة في التاريخ الأميركي من زاوية الخداع والكذب المنمق والمنظم، وهناك نكتة أميركية قديمة تقول إنك تستطيع وصف أحد السياسيين بأنه كاذب بمجرد تحريكه لشفتيه، ومع أن التاريخ الأميركي عرف الكثير من الرؤساء الكاذبين، فإنه لم يشهد رئاسة ذات سجل منظم من الخداع المحكم مثلما هي الحال مع بوش الصغير، فهو يحوك أكاذيبه حتى يتمكن من إخفاء طبيعة أيديولوجيته وخططه التي يرمي إليها، ونجح البيت الأبيض في خلق صورة ذهنية عن إدارة بوش منافية للواقع، صور فيها الرئيس كما لو كان يسير فوق الماء فيما ترافقه الصحافة في تلك التجربة. خلقت مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لدى أجهزة الإعلام مناخاً من الوطنية والقومية بما لا يسمح بمساءلة أو انتقاد القائد الأعلى للقوات الأميركية بوش الصغير، وظهر أمام الرأي العام الأميركي نمط جديد من أجهزة الإعلام المهادنة الأقل قدرة، بل ورغبة في كثير من الأحيان، على النقد أو كشف الحقائق التي تحيط بالإدارة الأميركية والرئيس. ولكن دوام الحال من المحال، فالحقائق على أرض الواقع دامغة تشهد على غباء وجهل بوش الصغير وزمرته، وكان عليه أن يحافظ على كرسي الرئاسة بعد أن اختطفه بواحد في المئة فقط. سقط بوش الصغير بعد أن شعر بأن القواعد والقوانين العادية التي تحكم حياة الناس في المجتمع لا تنطبق عليه، لذلك فهو شخص يعيش خارج القانون أو فوق القانون، يرى ما يجب أن يراه الشعب الأميركي، ويعمل ضد إرادة هذا الشعب، ونسي أو تناسى أن بيد الشعب الأميركي وحده مستقبله السياسي هو وحزبه، فجاء الفشل سريعاً، والسقوط مدوياً. سقط بوش الصغير لعدم قدرته على فصل الحقائق عن الخيال، الأمر الذي دفعه إلى الغوص في الأكاذيب المفضوحة غالباً، وهذا بحد ذاته يناقض صورة الرئيس الشريف التي كان يسعى بوش إلى الظهور بها، فقد كذب بشأن الخدمة العسكرية، وبشأن اعتقاله من قبل الشرطة، وبشأن سجله عندما كان حاكماً لولاية تكساس، وبشأن مبررات الذهاب إلى الحرب في العراق، وبشأن إجراءات الأمن الداخلي، وبشأن مهادنة إيران النووية. كما أدى انكشاف الحقائق والأجندة الخفية الخاصة بالحرب ضد الإرهاب إلى تآكل اللعب بورقة التهديد الإرهابي المسلط على رؤوس الأميركيين. لذلك أصبح من واجب الشعب الأميركي بأكمله أن يزيح الرئيس بوش الصغير من البيت الأبيض، ويسقطه في الهاوية، ولكن من المؤكد أن الأنظمة العربية ستظل منبطحة لأي سيد سيحتل البيت الأبيض.