يحب "شينزو آبي" أن يُشار إليه كأول رئيس وزراء ياباني، يولد بعد الحرب العالمية الثانية. كانت تلك ملاحظته التي افتتح بها خطابه الأول أمام البرلمان الياباني عندما وصل إلى السلطة في شهر سبتمبر الماضي. ومن المرجح أنه ربما أعاد الملاحظة ذاتها خلال لقائه الرسمي الأول مع الرئيس بوش خلال الأسبوع الماضي في فيتنام. ولم تغب تلك الملاحظة أيضاً عن اللقاء الذي جمعني به مع "أنطوني فايولا"، مدير مكتب "واشنطن بوست" في اليابان. في ذلك اللقاء كان "شينزو آبي" واضحاً عندما قال :"إنني أول رئيس وزراء وُلدت وترعرعت في حضن القيم الجديدة، وهي قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان". ويبدو أن اليابانيين الذين لا يوجد أحب إلى أنفسهم من مناقشة من يكونون كشعب، والطريق الذي يسلكونه، على وشك الدخول في أحد أهم نقاشاتهم الدورية حول قضية الهوية، حيث يطرح "آبي" نفسه كسياسي قادر على صياغة ذلك النقاش الأثير على اليابانيين "والمضي قدماً نحو بناء بلد جديد" كما يقول. الأميركيون من ناحيتهم ليسوا مهتمين كثيراً بالنقاش الدائر حالياً في اليابان بسبب متانة التحالف بينهما وخلوه من أية مشكلات تعكر صفو العلاقات بين البلدين في المرحلة الراهنة. وبالرجوع إلى التاريخ، وتحديداً قبل الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان تتطلع إلى إثبات أنها تستطيع كأمة لا تنتمي إلى الجنس الأبيض، التحول إلى قوة عالمية. لكن بعد الدمار الذي تعرضت له إثر الحرب وجدت اليابان نفسها تقبل الهزيمة وتعمل بجد من أجل النهوض وإعادة الإعمار. وكضحية وحيدة للقنبلة النووية، تمسكت اليابان بالخيار السلمي، وسعت إلى تجنب الحروب مكرسة نفسها لقضية السلام العالمي. وقد أدى تحفظها من التدخل في شؤون الدول الأخرى إلى الاكتفاء بإعطاء النموذج لباقي الأمم بدل السعي إلى أي دور قيادي على المستوى الدولي. لكن ما إن حلت سنوات السبعينيات والثمانينيات، حتى فاجأ اليابانيون أنفسهم عندما استبدلوا تركيزهم المتواصل على سياستهم السلمية بصورة أخرى تجسدت في الدولة الرائدة عالمياً في مجال التصنيع، لينصب التركيز على مسألة تحقيق الازدهار والرفاه. لكن وعلى غير المتوقع انفجرت الفقاعة اليابانبة، وأصبحت سنوات التسعينيات "عقداً ضائعاً" تميز بالانكماش الاقتصادي وتراجع النمو، لاسيما في ظل الصعود الكبير للصين على الساحة الدولية كقوة اقتصادية يعتد بها. هذا فضلاً عن المشكلات الديموغرافية التي تعرفها اليابان، إذ بعد فترة من التزايد السكاني شهدت اليابان السنة الماضية تقلصاً في عدد سكانها. ورغم أن اقتصادها مازال يحتل المرتبة الثانية على الصعيد العالمي متجاوزاً الاقتصاد الصيني بثلاث مرات، فإن حصتها العالمية من إجمالي الناتج المحلي قد تراجع في السنوات الأخيرة. لذا مازالت اليابان تعاني من فقدان الثقة بالنفس والتردد حتى بعد استعادتها لعافيتها الاقتصادية، وهو ما دفع "شينزو آبي" إلى الإعلان بأن اليابان في حاجة إلى "هوية جديدة". لكن ما هي تلك الهوية على وجه التحديد؟ في لقائنا مع "شينزو آبي"، وهو حفيد رئيس وزراء سابق ونجل وزير خارجية، تحدث بهدوئه المعهود، حيث لم يحرك يديه المتشابكتين، وجاء صوته كالعادة منخفضاً ومتوازنا. وهي الطريقة نفسها التي تعامل بها مع الدول المجاورة منذ تقلده منصب رئيس الوزراء ليهدئ مخاوف البلدان التي عانت من الاحتلال الياباني ويطمئنها إلى أن الحديث الجاري عن هوية جديدة لليابان، لن يتحول إلى نزوع نحو قومية شوفينية كتلك التي عرفتها اليابان في تاريخها الحديث. وقبل أن يصبح رئيساً للوزراء، شكك "شينزو آبي" في شرعية محاكم الحرب التي نظمتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى غرار السياسيين الذين سبقوه قام بزيارة "ياسوكوني"، الضريح الذي يضم رفات مجرمي الحرب اليابانيين، رغم احتجاجات الصين وغيرها من الدول. بيد أن "آبي" لم يتوقف عند دعوته لتجديد الهوية اليابانية، بل سرعان ما مد يده إلى الصين وكوريا الجنوبية ما أدى إلى ارتفاع شعبيته داخل بلاده. وشدد "شينزو آبي" أيضاً على ضرورة استمرار التحالف مع الولايات المتحدة باعتباره أساس الأمن الياباني، مؤكداً سعيه إلى انفتاح أكبر للاقتصاد رغم التحفظ التقليدي للمجتمع الياباني من الأجانب جاعلاً من عبارة "الفرص الجديدة" كلمة السر في سياساته الاقتصادية. وبدلاً من التركيز على خصوصية يابانية ضيقة والبحث عن دور عالمي، يتحدث "شينزو آبي" عن القيم المشتركة بين أميركا واليابان والمتمثلة في "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وسيادة القانون". وعلى سبيل المثال، فقد أخبرني رئيس الوزراء الياباني خلال لقائه معي بأن "على اليابان أن تلعب دوراً في نشر تلك القيم في منطقة آسيا"، حيث يؤمن بضرورة التعاون مع باقي الديمقراطيات في المنطقة مثل أستراليا والهند، وحتى مع الصين التي تحاول ممارسة نفوذها من منطلق مختلف. وفي الوقت نفسه، لم يتحرج "شينزو آبي" من إعلان أن الوقت قد حان لتغير اليابان دستورها ما بعد الحرب الذي فرضته قوة الاحتلال الأميركي وصياغة دستور جديد. وهو يدعو أيضاً لتغيير المناهج الدراسية في المدارس اليابانية لإدراج القومية اليابانية التي مازالت تعتبر من المحرَّمات. وقد أخبرني أحد المسؤولين الأميركيين أن "شينزو آبي" يمثل عن حق جيلاً جديداً من القادة اليابانيين الذين يطمحون إلى بعث القومية اليابانية، لكنها نوع آخر من القومية بعيدة عن التعصب والعنف. ومع ذلك من الصعب التنبؤ بنجاح مساعيه، إذ يوجد من ناحية مؤيدوه من الجناح "اليميني" الذين يضغطون في اتجاه التعصب والقومية السلبية، ومن جهة أخرى مازال العديد من اليابانيين متحفظين من لعب بلدهم لدور قيادي في العالم عدا ذلك المرتبط بالتجارة. واللافت أنه في الوقت الذي تشهد فيه أجندة الحربة انحساراً ملحوظاً في واشنطن، يبدو أنها وجدت لها مناصراً جديدا في طوكيو. فريد حياة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"