لعل من أهم التصورات المطروحة حالياً في الساحة العراقية ذلك القائل إنه لكي تتمكن الولايات المتحدة من المضي قدماً في معالجة المشكلة لابد من خفض قواتها المرابطة في العراق كجزء من انسحاب شامل يجري على نحو تدريجي. ويرتكز هذا التصور على الحجة القائلة إنه في حال انسحاب معظم القوات الأميركية من العراق وبقاء عدد محدود منها للاضطلاع بأدوار معينة وفي حدود ضيقة، فإن ذلك من شأنه تحفيز الحكومة العراقية وتشجيعها على تحمل مسؤوليتها لتأمين العراق والسهر على إعادة بنائه. وهي الحجة التي يتداولها "الديمقراطيون" على نطاق واسع، لاسيما من قبل السيناتور "كارل ليفين" من ولاية ميتشيجان والرئيس الجديد للجنة القوات المسلحة في مجلس "الشيوخ"، الذي يدعو إلى الشروع في سحب القوات الأميركية من العراق خلال الشهور الأربعة المقبلة. بيد أن هذه الحجة التي يطرحها بعض "الديمقراطيين"، ويدافعون عنها، تتعرض لانتقادات شديدة من قبل عدد من الخبراء العسكريين والجنرالات السابقين، بمن فيهم الذين انتقدوا سياسة إدارة بوش في العراق. وفي هذا الصدد يذهب "أنتوني زيني"، القائد السابق للقيادة الوسطى، وأحد الجنرالات المتقاعدين الذين طالبوا باستقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيد، إلى أن أي خفض جوهري للقوات الأميركية في العراق خلال الشهور القليلة المقبلة سيؤدي على الأرجح إلى تدحرج البلاد إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. وفي لقاء صحفي أجري معه أوضح الجنرال "زيني" أن المنطق الذي يحكم حجة الانسحاب التي يتبناها البعض هو "أنه بممارسة ضغوط على حكومة نوري المالكي فإننا نرغمه على تحمل مسؤولياته، لكننا لا نستطيع الضغط على رجل هش، فالقناعة السائدة هي أن الحكومة العراقية لا تبذل ما يكفي من الجهد لفرض الأمن، وبأن لهم قدرة لا يريدون توظيفها. والواقع أن الحكومة نفسها عاجزة عن وقف العنف". وبدلاً من الحديث عن سحب القوات، يقول الجنرال "زيني": من الأفضل والأقرب إلى المنطق الحديث عن نشر قوات إضافية خلال الستة شهور المقبلة لخلق زخم إضافي كجزء من الجهود الشاملة لإحلال الأمن والاستقرار في العراق. وهو هدف لن يتحقق دون خلق المزيد من فرص العمل، وتكريس المصالحة السياسية، وتطوير القوات العراقية لتصبح أكثر فاعلية في تحمل مسؤولياتها الأمنية. يذكر أن الجدل الدائر حالياً حول عدد القوات الأميركية في العراق وما إذا كان يتعين خفضها يسبق اللجنة التي تم تشكيلها في شهر مارس الماضي المعروفة باسم "مجموعة دراسة العراق" تحت قيادة وزير الخارجية الأميركية السابق جيمس بيكر، وعضو مجلس النواب السابق "لي هاملتون". وهي اللجنة التي ركزت اهتمامها على القيادة السابقة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد وما إذا كانت الولايات المتحدة قد بذلت ما يكفي من جهد واتخذت الخطوات اللازمة لدحر، أو على الأقل احتواء التمرد المتصاعد في العراق. لكن بعدما تغيرت طبيعة الصراع في العراق على امتداد الأشهر الماضية تبدل أيضاً النقاش ليتحول من تقييم الوضع ومحاولة معالجته إلى العمل على تفادي انزلاق العراق بعنفه المتزايد إلى حرب أهلية شاملة تأتي على الأخضر واليابس. ولم يخف المسؤولون الأميركيون قلقهم من الوضع في بغداد وعجز الحكومة العراقية عن نشر تعزيزات أمنية في شوارع العاصمة لإقامة "حكومة موحدة"، ومواجهة الميلشيات المسلحة بعدما استطاعت هذه الأخيرة اختراق الأجهزة الأمنية المستحدثة التي يعمل معها الأميركيون. ويمكن اختصار الجدل المحتدم اليوم في مدى شعور الحكومة العراقية بضغط سحب القوات الأميركية من العراق واستجابتها السريعة له. وإدراكاً منه لوجاهة الرأي القائل بضرورة إشهار ورقة الانسحاب كوسيلة للضغط على المسؤولين العراقيين، انضم السيناتور "كارل ليفين" إلى سيناتور "ديمقراطي" آخر هو "جاك ريد" من "رود آيلند" لاقتراح تعديل يقضي بخفض القوات الأميركية على مراحل، وهي الخطورة التي يؤكد السيناتور "ليفين" أنها تلقى تأييداً من قبل جميع المرشحين "الديمقراطيين" المحتملين للرئاسة. ويختلف هذا الاقتراح عما تم طرحه في السابق من قبل بعض "الديمقراطيين" الذين دعوا لانسحاب كامل للقوات ضمن جدول زمني محدد. وقد بدأ المقترح الذي قدمه السيناتور "ليفين" يكتسب شرعية أكبر بعد الفوز الأخير للحزب "الديمقراطي" في انتخابات الكونجرس الأخيرة. ويوضح السيناتور "ليفين" موقفه خلال لقاء صحفي قائلاً "لا يوجد حل عسكري خالص، إذ لابد للعراقيين من التوصل إلى تسوية سياسية، حيث يتعين على القادة في العراق تقديم تنازلات فيما يتعلق باقتسام السلطة والموارد الطبيعية، وإلا فإن العنف سيستمر وتنزلق البلاد إلى الهاوية". وبينما تدعو خطة السيناتور "ليفين" إلى البدء في تقليص القوات الأميركية خلال الستة أشهر المقبلة، إلا أنها لا تنص على إطار زمني محدد لإنهاء الانسحاب، كما لا تحدد أيضاً عدد القوات التي يتعين سحبها في المرحلة الأولى لهذه العملية. لكن الخطة تنص بدلاً من ذلك على حصر دور القوات الأميركية في مهمات محدودة مثل حماية السفارة الأميركية، وتدريب القوات العراقية والقيام بعمليات ضد تنظيم "القاعدة" في العراق. ويستطرد السيناتور "ليفين" قائلاً: "إن الهدف النهائي من هذا المقترح هو دفع العراقيين للتعامل السياسي مع الوضع الحالي". غير أن بعض العسكريين يعارضون حتى الانسحاب التدريجي من العراق، حيث يعتبرون الوضع أخطر من أن يترك العراقيون لوحدهم. ويتخوف هؤلاء العسكريون خصوصاً من أن يطلق انسحاب القوات الأميركية من العراق يد الميلشيات الشيعية التي قد تقدم على عمليات تطهير واسعة في صفوف السُّنة، مما سيؤدي إلى اشتعال حرب شاملة. مايكل جوردون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية في "نيويورك تايمز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"