رويال: طريق امرأة يراودها حلم الرئاسة! "لأقولَ لكم إن السعادة تغمرني... فما أراه شيء استثنائي بكل تأكيد"، هكذا علقت سيجولين رويال عقب فوزها بالانتخابات الداخلية كمرشحة عن "الحزب الاشتراكي" الفرنسي لسباق الرئاسة القادم في فرنسا. فخلال تصويت حضره نحو 220 ألف من منتسبي الحزب مساء الخميس الماضي، تمكنت رويال من إلحاق الهزيمة بمنافسين قويين، هما رئيس الوزراء الأسبق لوران فابيوس، ووزير المالية السابق "دومينيك سترواس كان"، وذلك بعد ستة أسابيع من الحملات الانتخابية الأولية غير المسبوقة في السياسة الفرنسية، إذ التقى المرشحون الثلاثة وجهاً لوجه في مناظرات تابع الفرنسيون بعضها على قنوات التلفزيون، وكان فيها من الإثارة والقوة، ما رفع شعبية رويال التي غدت "سيدة اليسار الفرنسي" بلا منازع. لم يكن فوزها مفاجئاً، فاستطلاعات الرأي أشارت منذ مدة إلى تقدمها بفارق كبير على منافسيها، وقد تعززت حظوظها بعد إعلان ليونيل جوسبان، رئيس الوزراء الأسبق وأحد الأفيال الثقيلة، قراره بالانسحاب من السباق الداخلي على نيل ثقة الحزب. ثلاثة رجال وامرأة... عنوان تراجيدي ينطبق على الصراع المحموم الذي خاضته رويال كي تنال ترشيح حزبها... فهل سيمكنها أن تحافظ على وحدة اليسار أولاً، وأن تجسد وعد جيل جديد يبشر ببداية عهد التغيير المنتظر، ثانياً؟ وهل ستبقى مجرد تجسيد فاتن لمزايا مرأة فرنسية، يراودها حلم الرئاسة، لكن دون الحصول عليها؟ بمعنى آخر، هل رويال مجرد "فقاعة إعلامية... أو امرأة تجيد تجييش استطلاعات الرأي"، كما وصفتها "لوفيغارو" يوم أمس؟ تحدثت رويال قبل عدة أعوام عن ظاهرة من يمارسون "الهبوط بمظلة" في عالم السياسة، أما هي فلم تهبط على الحياة العامة للفرنسيين من فراغ الفضاء الخارجي، بل اجتازت طريقاً كانت أحد منعطفاته الوعرة، والذكية في آن معاً، حملتها الانتخابية الأخيرة. فقد اختارت أن تتميز عن منافسيها؛ فابيوس الذي أعلن دفاعه عن "يسار يتخلص من عقده"، وستراوس إذ قدم نفسه كـ"نقطة توازن" بين التيارات الداخلية المختلفة... أما رويال فلم تعلن برنامجاً انتخابياً محدداً، وإن طرحت ثلاثة موضوعات كبرى: نظام اقتصادي دولي عادل، مساواة في التعليم، بيئة ممتازة. كما أبقت على مواقفها ضمن الخط العام لـ"الحزب الاشتراكي"، وإن تعاملت مع قضايا كثيرة من زاويتها الخاصة، بل انتقدت الاشتراكيين على "أخطاء كثيرة" أثناء حكمهم. شددت سيجولين على استخدام صفتها الأنثوية في ترشيحها الحالي، لكن البعض شبهها بالزعيم الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، كمزيج من التقليد والحداثة، الريفية والباريسية، الاشتراكية التقليدية والمرونة الأيديولوجية... إنها كما قالت صحيفة "باري ماتش"، "تجسيد رائع للتناقضات الفرنسية الكبيرة"! وما تلك التناقضات إلا انعكاس لماضي رويال وسيرتها السياسية. فقد ولدت في "داكار" بالسنغال عام 1953 لعائلة عسكرية فرنسية، ونشأت نشأة متمسكة بالشكليات العائلية، لكن ما أن بلغت التاسعة عشرة حتى رفعت دعوى قضائية على والدها العقيد السابق جاك رويال، حين رفض تطليق والدتها ودفْع مصاريف الدراسة لأطفالها الثمانية. تلقت سيجولين رويال تعليمها الابتدائي والثانوي في "شارم" باللورين شرقي فرنسا، وبعد حصولها على الباكالوريا درست في جامعة "نانسي 2" لتخرج بشهادة الليسانس في الاقتصاد، ثم بشهادة أخرى في العلوم السياسية عام 1978، كما التحقت بالمدرسة الوطنية للإدارة في باريس وتخرجت منها لتصبح قاضياً في المحكمة الإدارية. وفيما يخص حياتها السياسية، فقد انضمت إلى "الحزب الاشتراكي" عام 1978، وتولت باسمه وظائف محلية وتنفيذية وتشريعية عديدة؛ إذ انتخبت عام 1982 عضواً في المجلس المحلي لمدينة "تروفيل- سير- ماير" بإقليم "كالفادوس"، ثم عضواً بالمجلس البلدي لمدينة "مل" (ديه- سيفر) عام 1989، وفي عام 1992 أصبحت عضواً في المجلس الإقليمي لولاية "بواتو- شارانت"، ثم عضواً بالمجلس المحلي لمدينة "نوارت" في الإقليم نفسه عام 1995. وفازت رويال بعضوية البرلمان الفرنسي أربع مرات على التوالي، نائبة عن "ديه سيفر" منذ عام 1988 وحتى الآن. لكنها استقالت من البرلمان مرتين؛ لتتولى حقيبة البيئة في وزارة بيريغوفواي عام 1992، ثم حين أصبحت وزيراً مكلفا بالتعليم المدرسي في حكومة جوسبان عام 1997. التقت رويال بفرانسوا هولاند عام 1970، فارتبطا، وكان محامياً شاباً، وهو الأمين العام لـ"الحزب الاشتراكي" حالياً، ولها منه أربعة أطفال، لكنها لم تتزوج منه مطلقاً. ورغم كونها سيدة تحترم الواجب و"الأسرة"، فقد رفضت التضحية بحياتها السياسية! هذا عصر المرأة في فرنسا... لقد أطل فجره مع وزيرة الدفاع الحالية ميشيل أليو ماري، كواحدة من النساء القليلات جداً، ممن حظين بهذا المنصب القيادي العسكري. ورغم أن مسألة نيل المرأة الفرنسية لحقوقها وإشراكها في الحياة العامة، يعودان إلى تاريخ قديم نسبياً، مقارنة مع الولايات المتحدة مثلاً، فإن وجود مرشحة قوية للرئاسة كسيجولين رويال، هو أمر جديد تماماً على فرنسا التي عرفت أول إعلان لحقوق الإنسان، وشهدت ميلاد فكر الأنوار، والتنظيرات المتحررة للحداثة وما بعدها، وثورة الطلاب التي أظهرت إلى أي أحد تختلف فرنسا عن ماضيها! أما عن الجدة في طروحات رويال نفسها، فمن ذلك أنها شككت في جدوى خفض عدد ساعات العمل، ودعوتها إلى ما سمته "الديمقراطية المشاركة"، وإلى إنشاء هيئات شعبية تتولى مراقبة المسؤولين ومحاسبتهم. وقد رأت مؤخراً أنه يمكن حل أزمة الضواحي، والتي كشفت عجزاً بنيوياً في إدماج المهاجرين، عبر إلحاق الشباب المشاغبين بمعسكرات للجيش! ورغم أنها محاطة بأشخاص قديرين تستعين بهم، أحدهم شريك حياتها هولاند، فإن افتقادها للتجربة في مناصب كبرى أمر لا يمكن تعويضه. بيد أن المعركة الحقيقية لرويال، إنما بدأت أول أمس فحسب، إذ قد تجد نفسها في مواجهة السياسي ووزير الداخلية القوي نيكولا ساركوزي الذي يسعى لتكريس نفسه مرشحاً لحزب "الاتحاد من أجل الحركة الشعبية" الحاكم، في انتخابات نوفمبر القادمة. فمن يضمن لرويال أن يستمر مزاج الشارع الفرنسي، بالحال الذي هو عليه الآن، حتى موعد الاستحقاق الذي يُنتظر أن يكون فارقاً تاريخياً في فرنسا؟ محمد ولد المنى