لدي صديق هنا في بكين، اعتاد أن يجري اختباراً ذاتياً لجودة الهواء صباح كل يوم، شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره من سكان العاصمة الصينية. فهو يفتح شباك نافذته في الطابق الرابع والعشرين من البناية التي يسكنها، ويطل من ورائها لاختبار المدى الذي يمكن أن تمتد إليه رؤيته. فإذا ما كان الجو صافياً ورائقاَ، وهو أمر يندر حدوثه، بعد أن يكون الهواء قد كنس سماء المدينة وغسلها، فعندها يكون قادراً على رؤية "جبل فراجرانت" الشامخ الذي يعلو المدينة من ناحيتها الشمالية الغربية. أما في يوم تلوث لا بأس به، فيكون في وسعه رؤية "مبنى الصين العالمي" المؤلف من أربع مجمعات كبيرة هناك في البعيد. أما إذا ما كان الصباح بكينياً تقليدياً سيئاً، فعندها تتعذر عليه رؤية المبنى المجاور له مباشرة. وقبل وصولي إلى بكين بوقت قريب، كانت هذه المدينة مقراً لاستضافة قمة ضمت 42 من القادة والزعماء الأفارقة. وحسب التقرير الذي نشرته مجلة "تايم" فقد أمرت السلطات الصينية بمنع نصف مليون من السيارات الحكومية من السير في الشوارع، بينما أشارت إلى تبرع 400 ألف سائق آخرين بتعطيل سياراتهم مؤقتاً، حتى تصفو سماء المدينة وأجواؤها للضيوف الأفارقة. لكن ما أن انفض سامر تلك القمة، حتى انطلقت أرتال السيارات في الشوارع مجدداً، وعادت المدينة إلى سابق عهدها مع الهواء الملوث، غير الصحي. وأشارت مجلة "تايم" إلى أن آخر التقديرات الصادرة عن إدارة حماية البيئة الصينية، تشير إلى وفاة نحو 358 ألف مواطن سنوياً بسبب التلوث الهوائي. غير أن المسؤولين الصينيين لم يتصدوا بعد بما يكفي، لمواجهة التحدي الكبير الذي ينتظرهم فيما يتعلق بتنظيف هذه الماكينة الاقتصادية الجبارة لبلادهم، دون أن تتوقف القاطرة الاقتصادية عن المضي قدماً في تحقيق نموها الخرافي. أما من ناحيتي، فإن من رأيي أن الصين باتت بحاجة ماسة اليوم، إلى شيء شبيه بذلك الجهد المضني الذي بذله دينج تشياوبنج من قبل، بتحويل بلاده من نمط الإنتاج الشيوعي، إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. أعني بهذا أن الصين في أمس الحاجة الآن، لإحداث تحول جديد من نمط التلوث الرأسمالي، إلى نمط التنمية الرأسمالية النظيفة المستدامة. وإذا كان الزعيم المؤسس ماو تسي تونغ، قد كاد يقضي على بلاده تماماً، بثورته الثقافية التي كان همها أن تجعل الصين أكثر احمراراً، فإن عليها اليوم أن تتبنى ثورة ثقافية خضراء، أكثر استدامة، إن كان لقطار نموها الاقتصادي الأعمى، ألا يدمر نفسه تلقائياً. وكما حدثني "بان يوي"، نائب وزير حماية البيئة، "فإنه لا يكفي مجرد الحديث وحده، لتغيير الاتجاه السلبي الحالي"، ومضى قائلاً: "إن السبيل الوحيد هو أن يتغير سلوك المسؤولين من قمة الهرم القيادي إلى قاعدته. وإن من واجبي وعملي، توعية وتشجيع المسؤولين على تبني هذا التغيير في السلوك، حتى لا يعتقدوا أن النمو، مفردة لا تعني أكثر من زيادة إجمالي الناتج المحلي فحسب، بل آن لهم أن يدركوا أن لها علاقة بالصحة والسلامة البيئية كذلك". وفي رأيي أن الصين في أمسِّ الحاجة اليوم، لإحداث ثلاثة تغيرات كبيرة مهمة. أولها الإضافة بالحذف. ذلك أنه لم يعد ممكناً للصين أن تحل مشكلاتها في مجال الطاقة ببناء اثنتين من محطات توليد طاقة الفحم الحجري بسعة 600 ميجاوات في أسبوع واحد. بل إن ما تحتاجه الصين هو تبني نمط كفاءة ولاية كاليفورنيا في مجال الطاقة، وبناء محطات مشابهة لها من طراز ما تقوم به شركة "إي بي بي إس". وتختص هذه الشركة الأميركية، باكتشاف وتطبيق التقنيات الكفيلة بالحفاظ على الطاقة وترشيد استهلاكها. ويشمل عملها تحسين الإضاءة، وتحسين التصميمات الهندسية الخاصة بمجال الطاقة، وصولاً إلى تطوير أفضل المعدات المستخدمة في منطقة ما. وتقوم المحطات التابعة للشركة، ببيع الطاقة التي تدخرها للشبكة الكهربائية القومية، بجزء من سعر تكلفة إنتاج الطاقة نفسها بواسطة محطات التوليد التي تعمل بالفحم الحجري. والفكرة هي إنشاء شركات طاقة ربحية، تركز جهودها على زيادة الطاقة بواسطة ترشيدها وادخارها حيثما انتفت الحاجة إليها، مع توفيرها وجعلها متاحة لمن يحتاجها في منطقة استهلاكية أخرى. وذلك هو معنى الإضافة بالحذف الذي قصدته. وبهذه الطريقة، فإنه لن تضطر الصين إلى بناء مزيد من نافثات الدخان والملوثات الهوائية، كي تحصل على ما تريده من طاقة إضافية. يشار إلى أن الخطة الخمسية العاشرة التي تبنتها الصين اعتباراً من عام 2000، كانت قد دعت إلى خفض انبعاثات غازات ثاني أوكسيد الكبريت بمعدل 10%، مع العلم بأن هذه الغازات هي التي تسبب هطول الأمطار الحمضية. لكن ما أن اختتمت تلك الخطة بحلول العام الماضي، حتى ارتفع معدل التلوث الهوائي في الصين، بنسبة 27%. أما الخطة الخمسية الحادية عشرة، فتطالب بإجراء تحسين في استهلاك الطاقة بنسبة 20%، مقابل كل نسبة 1% من إجمالي الناتج المحلي، وكذلك بانخفاض معدله 10% من الملوثات الهوائية والبيئية. لكن وإلى أن تبدأ الصين بفصل مسؤوليها المحليين عقاباً لهم على سوء أدائهم البيئي، فليس لنا أن نتوقع شيئاً يذكر من تطبيق هذه الخطط والطموحات. ورغم الحريات الواسعة التي سمحت بها السلطات الصينية مؤخراً، فيما يتعلق بممارسة الصحف المحلية لدور الرقابة على الأداء البيئي المحلي، فما أحوج الأمر كله، إلى طفرة قوية مزلزلة، مثل تلك التي أحدثها دينج تشياوبنج من قبل! توماس فريدمان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"