الحداثة بلا حريات! تعد قدرة الأمم والشعوب على إضفاء معنى على حياتها الاجتماعية وتوجيه مسارها، جزءاً حيوياً لا يتجزأ من مفهوم الحرية السياسية بمعناها العام. ويمكن فهم هذا من خلال المضمون التبادلي المشترك لكلمتي الحرية والديمقراطية، حيث لا تتوفر إحداهما ولا تتحقق إلا بوجود الأخرى، وحيث تشير ثانيتهما إلى معنى حكم الشعب بواسطة الشعب، لغة واصطلاحاً في القاموس. ولكن ما أبعد البرزخ الفاصل ما بين الواقع والنظرية في تطبيق المفهومين، حتى إذا ما اتخذنا من الديمقراطية الغربية مثالاً للدراسة! فالشعور العام في هذه الديمقراطيات الغربية، أن حرية الشعوب فيها هي جد محدودة وضيقة، رغم كل ما يقال عن الانفتاح واتساع الحريات فيها. كانت هذه الفقرة بمثابة مقدمة عامة نستهل بها استعراضنا لكتاب "التحديث وتبعاته السياسية"، وهو من تأليف الكاتب هانز بلوكلاند، والذي يعرض ويلخص الأفكار الأساسية لثلاثة مفكرين غربيين، عرفوا بتنظيرهم حول علاقة الحداثة بالتطور السياسي في عصرنا الحديث، وهم: عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وعالم الاقتصاد السياسي التشيكي جوزيف شومبيتر، وعالم الاجتماع والفيلسوف المجري كارل مانهايم. وبمراجعة الأفكار الأساسية لهؤلاء المنظرين الثلاثة، يمكننا استنباط القاسم المشترك بين آرائهم حول علاقة الفرد أو المجتمع ككل، بالمؤسسة السياسية الاجتماعية المحيطة، وبجهاز الدولة على وجه الخصوص. فالشعور الاجتماعي العام، هو سطوة قوى خارجية مجهولة، تهيمن على حياة الفرد والمجتمع، ولا قبل لهما بالسيطرة عليها. وليست هذه القوى شيئاً آخر سوى مجموع البنى السياسية والحقوقية المحيطة التي تحدد للفرد ما يجب عليه فعله وما لا يجب، وتضع أمامه خيارات ضيقة محدودة، ربما لا تكون هي الخيارات المثلى التي يمكن أن يلجأ إليها، في حال توفره على كامل الإرادة أو الحرية التي ينشدها لنفسه. وكان قد سبق ثلاثتهم إلى هذه الفكرة، الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي استخدم مفهوم "الاغتراب" بالمعنى ذاته، وإن كان قد رده إلى جذوره الاقتصادية والاجتماعية، الكامنة في تناقضات المجتمع الرأسمالي الطبقي. أما النتيجة المترتبة عن تقليص حرية الفرد والمجتمع، أو حالة "الاغتراب" هذه كما ذكرنا، فهي انحسار الرغبة في ممارسة العمل السياسي، في مقابل انتشار الشعور العام بالإحباط واليأس السياسيين. ومنشأ هذا الشعور الاجتماعي بالطبع، هو الوعي بأن أموراً كثيرة وحاسمة تهم المواطن والفرد، يجري تدبيرها وتصريفها باسمه، دون أن يكون له دخل فيها أو أن يصنعها بنفسه في واقع الأمر. يذكر أن آخر استطلاعات الرأي الأميركي السابقة للانتخابات النصفية الأخيرة، أكدت هذا الشعور بالنفور السياسي للمواطنين الأميركيين من سياسات لا يصنعونها ولا يصيبهم منها سوى وزرها وتبعاتها الجسام. ولا عجب إن أشارت تلك الاستطلاعات إلى تكرار عامة الأميركيين للنكتة التالية: "السياسة لا تهمني في شيء... فهي من صنع الأغبياء من أمثال رامسفيلد"، أو قولهم: "إن رأيي لا يقدم ولا يؤخر في شيء... فسواء قلت نعم أم لا... فليس هناك من يستمع إلىَّ أصلاً في واشنطن". أما في بلدان العالم العربي الإسلامي، فما أشد نفور المواطنين، من سياسات لا يشعرون أن لهم يداً فيها أو ناقة أو جملاً. ذلك هو موجز المعنى الذي رمى إليه المفكرون الثلاثة، الذين اهتم الكاتب باستعراض أفكارهم واستنباط ما يجمع تنظيرهم حول علاقة الفرد والمجتمع بالدولة. على أن الكتاب يضيف بعداً آخر إلى ما ناقشه هؤلاء، بقوله إن العامل الأساسي الذي يفسر هذا الشعور بالعجز الاجتماعي والاغتراب إزاء البنى السياسية الحاكمة، هو عملية التحديث. وهنا أيضاً يعرض الكاتب ويترجم ويحرر أفكار هؤلاء المفكرين الثلاثة، إلا أنه يغطي عدة قضايا ويفصلها بقدر أكبر من التركيز والتخصيص. في مقدمة هذه القضايا، معنى التحديث، ومجموعة القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الدافعة له، وصولاً إلى القضية الجوهرية والأهم: تبعات التحديث، وانعكاساتها على الحرية السياسية للمواطنين، بما فيها مدى قدرتهم على توجيه مسار مجتمعاتهم عبر الديمقراطية السياسية. على أن النتيجة النهائية لهذه المناقشة تظل هي نفسها التي خلص إليها الكاتب من قبل، ألا وهي الشعور بحالة العجز والاغتراب، رغم عملية التحديث ذاتها. والمعنى البعيد إذن، هو أن مجتمعاتنا المعاصرة قد مضت بدرجات متفاوتة نحو مرحلة الحداثة، غير أنها تظل حداثة خاوية من الحرية السياسية، باعتبارها أهم قيمة كان لابد لها من أن تتضمنها. وبذلك ومهما اختلفت الرؤى حول مفهوم الاغتراب، فهو قائم وباقٍ في صلب حضارتنا الحديثة. وإذا كانت قد سبقت الإشارة إلى تعريف كل من المفكرين الثلاثة بحقل تخصصه الرئيسي، فإن ذلك لا يمنع من القول إن لهم جميعاً إسهامات مشتركة في علمي الاقتصاد والاجتماع بصفة خاصة، يضاف إليهما علم الرياضيات في حالة كارل مانهايم. كما أن لكل منهم إسهامه في عدة مجالات أخرى، منها الفلسفة والتاريخ والقانون. وكانت لـ"المدرسة التاريخية الألمانية" تأثيراتها الواضحة على مجمل أفكار ماكس فيبر، بينما تأثر كارل مانهايم بكل من ماكس فيبر، وجورج لوكاتش، وظواهرية إدموند هوسريل، وأفكار كارل ماركس، وكذلك ماكس شيلر. وعند ثلاثتهم نلحظ ظلال وتأثيرات عدة مدارس ومناهج فكرية هي التاريخية الألمانية، الفلسفة الظواهرية، الماركسية، البراجماتية الأنجلو- أميركية، فضلاً عن تأثيرات طيف واسع من الأفكار الاجتماعية والاقتصادية المتناثرة هنا وهناك. عبد الجبار عبد الله الكتاب: التحديث وتبعاته السياسية المؤلف: هانز بلوكلاند الناشر: مطبعة جامعة ييل للنشر تاريخ النشر: 2006