مطارات الأشباح ووكلاء التعذيب في الكتاب الذي نعرضه في هذه المساحة وعنوانه: "طائرة الشبح: القصة الحقيقية لبرنامج التعذيب الخاص بالسي.آي.ايه"، لمؤلفه "ستيفن جراي" الصحفي السابق في قسم التحقيقات بصحيفة "الصانداي تايمز" اللندنية، يقول الكاتب إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت تعمد دائماً لاستخدام عبارات براقة -مخففة غالباً- تغطي بها على طبيعة العمليات التي تقوم بها. من ذلك على سبيل المثال أنها كانت تطلق في الماضي على عمليات الاغتيال التي كانت تنفذها اسم "الإجراءات التنفيذية"، كما تطلق في الوقت الراهن على استعانتها بعملاء من دول أجنبية مسمى "علاقات التواصل". وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجدت الوكالة نفسها مضطرة إلى الاعتماد على بعض أجهزة الدول التي تعادي تنظيم "القاعدة"، ولكنها تحتفظ بعلاقات وثيقة مع منظمات أخرى مدرجة على قائمة الإرهاب... كما وجدت نفسها بعد أن قبضت على الآلاف من رجال "القاعدة" وغيرهم، غير قادرة على استجواب هذه الأعداد الكبيرة بسبب النقص في عدد المترجمين، فما كان منها إلا أن قامت بشحن ما تستطيع من هؤلاء المعتقلين إلى بلدانهم الأصلية كي يخضعوا للتحقيق بواسطة أجهزة الأمن المحلية ذات التاريخ العريق في التعذيب والوحشية. هذه العمليات التي أطلقت عليها الوكالة اسماً مخففاً كعادتها، وهو "عمليات تسليم المعتقلين"، ترتبت عليها نتائج سيئة بسبب الوسائل الوحشية التي استخدمتها أجهزة الأمن في دول التحقيق مع هؤلاء المعتقلين. وكانت الحجة التي قدمتها الأجهزة الأميركية عندما تم الكشف عن تلك العمليات، أن أميركا لا تقوم بتعذيب المعتقلين، حسب دستورها، وأنها اضطرت إلى ذلك الإجراء بسبب نقص المترجمين، وأنها كانت تطلب من أجهزة تلك الدول ألا تقوم بتعذيب المعتقلين! وهي بالطبع حجة لا تقنع أحداً، ونسي مقدموها أن نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني نفسه كان قد صرح في البرنامج التلفزيوني الأميركي ذائع الصيت Meet The Press، وبعد أسبوع واحد من وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر أن الولايات المتحدة ستضطر -في بعض الحالات- إلى العمل من وراء ستار، وأن بعض العمليات التي ستقوم بها ستجري في الظلام، وأن طبيعة الخطر غير المسبوق الذي تتعرض له هو الذي حتم عليها ذلك. ويقول مؤلف الكتاب إنه حصل على معلومات مهمة وموثوق بها حول عمليات تسليم المعتقلين، وإنه اعتمد في ذلك على التنقيب في السجلات العمومية لتدوين بعض المعلومات الفنية، مثل رقم ذيل الطائرة وجداول الطيران الخاصة ببعض الطائرات التي كانت تقوم برحلات غامضة بين بعض المدن مثل مدينة "جونسون كاونتي" (تقع بالقرب منها قاعدة القوات الخاصة في فورت براج) وبين مطارات دول أخرى في الشرق الأوسط أو في وسط آسيا لها تاريخ في التعذيب. وقد تبين للمؤلف من خلال السجلات أن تلك الطائرات كانت تقوم برحلاتها "الشبحية" هذه بناء على أوامر من "الأجهزة البيروقراطية العسكرية"، وهو اسم مخفف كما نرى تختفي وراءه "السي.آي.إيه" التي كانت تقوم من خلال تلك الرحلات بنقل مئات الأشخاص المشتبه بهم كإرهابيين. بالإضافة إلى ذلك، قابل المؤلف العديد من العملاء والشخصيات التي احتفظ بهويتها سراً وبعض الدبلوماسيين والجنود من ذوي الصلة بتلك العمليات السرية، بل قابل عدداً من ضحايا عمليات التعذيب وأجرى لقاءات مطولة معهم. ويسهب الكاتب في مناقشة الوسائل التي اتبعتها تلك الأجهزة وبيان مشروعيتها من عدمها، وهل كان لها داعٍ من الأساس، وهل تبرر المعلومات التي تم الحصول عليها تلك الإساءة البالغة التي لحقت بمصداقية الولايات المتحدة وأجهزتها وكان لها أثر عكسي على عمليات كسب العقول والقلوب التي خططت لها الإدارة الأميركية بعد تفاقم ظاهرة العداء لأميركا؟! لكن مما يؤخذ على الكاتب وهو يسرد بعض الروايات التي حصل على تفاصيلها من الأشخاص الذين تعرضوا للتعذيب، لجوؤه إلى الإسهاب المفرط، فهو يروي مثلاً كيف أن ذلك الشخص قد حكى له أنه كان جالساً في مطعم يتطلع إلى السقف، وكيف أنه فوجئ بمن يدخل ويسأله أسئلة (يسردها الكاتب بالتفصيل)، وكيف أجاب عليها، وكيف طُلب منه بعد ذلك مرافقة الشخص الذي كان يستجوبه، وكيف أنه عندما خرج من المطعم، كانت السماء ملبدة بالغيوم والجو يؤشر بقرب هطول المطر... ومثل ذلك من التفاصيل التي لم يكن بناء الكتاب ليتأثر بحذفها، وكان الغرض منها في الأساس ملء أكبر عدد ممكن من الصفحات. وينهي المؤلف كتابه بالتأكيد على أن الكثير من المعلومات التي تم الحصول عليها، لم تكن موثوقة بل وتأكد خطؤها وكان أبرزها تلك المعلومات التي اعتمد عليها "كولن باول" في تقديم تقريره الشهير إلى الأمم المتحدة قبل غزو العراق، والذي أكد خلاله أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وهي معلومات كانت الاستخبارات المركزية الأميركية قد حصلت عليها من أحد العاملين في مراكز تدريب "القاعدة" ويدعى "ابن الشيخ الليبي" كان قد قبض عليه وسُلم إلى أجهزة الأمن في إحدى دول الشرق الأوسط، وانتزعت منه اعترافات بأن بعض عملاء "القاعدة" أرسلوا إلى صدام حسين لتعلم مزيد من التقنيات على استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وهي اعترافات ثبت خطؤها فيما بعد، وقام الرجل نفسه بالتنصل منها زاعماً أنه قد اضطر إلى الاعتراف تحت وطأة التعذيب! سعيد كامل الكتاب: طائرة الشبح: القصة الحقيقية لبرنامج الـ"السي.آي.إيه" للتعذيب المؤلف: ستيفن جراي الناشر: سانت مارتين تاريخ النشر: 2006