يبدو أن المجتمعات الغربية تمر في هذه المرحلة باختلالات عميقة سبق وأن أشار إليها العديد من الباحثين في المجال السوسيولوجي، كل من زاوية محددة. وتلقي هذه الأبحاث والدراسات الضوء على بعض المناطق المعتمة من المجتمعات الغربية، رغم التقليد الغربي العتيد في النبش وعدم كبت النقاش حول أكثر القضايا حساسية. والواقع أنه لم يعد هناك في الغرب ما يمكن أن يطلق عليه "قضية اجتماعية حساسة"، بسبب تطور علم الاجتماع وملامسته لأكثر القضايا إثارة للجدل، والتي قلما نجد لها مثيلاً خارج الفكر الغربي. والكتاب الذي نعرضه اليوم لصاحبه المفكر الألماني أكسيل هونيث، لا يخرج عن هذا التقليد الذي سنته مدرسة فرانكفورت منذ تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي على يد الفيلسوف الألماني ماكس هوركهايمر. وقد لعب هونيث المولود عام 1949، دوراً كبيراً في النهوض بالبحث السوسيولوجي داخل مدرسة فرانكفورت العريقة بإسهاماته القيمة التي يندرج في إطارها كتابه الذي نعرضه، وعنوانه "مجتمع الاحتقار: نحو نظرية نقدية جديدة". ومنذ البداية يُعمل المؤلف مبضع التشريح الاجتماعي لتفسير ما بات يلاحظه من افتقاد الفرد في المجتمعات الأوروبية التي قفزت بخطوات متعجلة على درب الحداثة وما بعدها، إلى الثقة في المستقبل وسيادة الشعور بعدم الجدوى والخواء الداخلي وسيطرته على الفرد الغربي. وقد انطلق المؤلف من ملاحظة أساسية لمسها من خلال رصده للتحولات الاجتماعية الأخيرة في أوروبا، حيث لاحظ أن الآمال التي أنعشتها الثورة الفردانية خلال السبعينيات والثمانينيات وما رافقها من تطلع لتحقيق الذات الفردية للإنسان الأوروبي، بدأت تخبو وتنحسر في السنوات الأخيرة. لكن كيف استطاعت الحضارة الغربية أن تجمع بين فن الاحتفاء بالحياة وعشق المظاهر المرتبطة بها، وبين الشعور المتنامي بصعوبة الحياة وما يصاحبها من كآبة وإحساس بالاختناق؟ للإجابة عن السؤال يشرع المؤلف في تحليل تطور مجتمع الاستهلاك الرأسمالي وإعادة تقييم الأحاسيس التي يولدها داخل الفرد. فوفقاً لهونيث لا تنتج الاختلالات الاجتماعية فقط عن المشاكل المرتبطة بانتهاك مبادئ العدالة، بقدر ما تنجم عن عجز المجتمع عن ضمان حياة ناجحة وممتلئة لأفراده. وهنا يفرق المؤلف بين متطلبات الوجاهة والجري وراء الاستهلاك غير المجدي الذي يعبر عن نقص، وبين سعي الأفراد إلى تحقيق ذواتهم من خلال الأنشطة المتعددة والعلاقات الاجتماعية المثمرة. وعلى غرار المفكرين السوسيولوجيين الذين سبقوه، يركز هونيث اهتمامه على العلل والأمراض الاجتماعية، محاولاً تجاوز المقاربات التقليدية التي كانت تحصر الظواهر الاجتماعية في الصراع الطبقي، أو انعدام التكافؤ الاجتماعي. ولعل جديد أطروحة هونيث هو تجاوزه للعامل الاقتصادي في تفسير التحولات الاجتماعية، وتسليطه الضوء على الشروط الثقافية التي تحول دون تفتح أفراد المجتمع وتحقيقهم لذواتهم. لكن لماذا يبدو وكأن المؤلف يشير بأصابع الاتهام إلى الرأسمالية في نسختها الليبرالية الجديدة باعتبارها مسؤولة عن ممارسة إكراهاتها الضاغطة على الفرد في المجتمع الغربي وتحرمه من تحقيق فردانيته؟ من خلال دعوته إلى إعادة صياغة "النظرية النقدية" التي ساهم في وضع أسسها الأولى كل من أدورنو وهوركهايمر، واستناداً إلى أطروحة جديدة تفسر التدافع الاجتماعي بـ"الصراع من أجل انتزاع الاعتراف"، يكشف المؤلف أن تشكل هوية مستقلة بذاتها إنما يعتمد بالأساس على علاقات الاعتراف المتبادل التي يتمكن الأفراد من إقامتها فيما بينهم. وهي العلاقات التي يعتبر هونيث أنها مغيبة في النظرية النيوليبرالية التي تنظر إلى الفرد كعنصر اقتصادي يتعين الاهتمام به لمضاعفة إنتاجه، وليس لسعادته الخاصة. وفي هذا الإطار يميز المؤلف بين ثلاثة مستويات من الاعتراف، تتحدد من خلالها طرائق للاقتراب من الذات في أفق تحققها النهائي، بكل ما يعنيه ذلك من تفتح لشخصياتنا وسحب رداء الكآبة والضيق عنها. يتجسد أول هذه المستويات في فضاء الحب والصداقة، حيث العلاقات الوجدانية التي تنسج أواصر الترابط بين فرد وجماعة معينة، هي وحدها القادرة على استعادة الثقة المفقودة في النفس. وهنا يربط المؤلف بين المجال الخاص والعلاقات الخاصة وبين المجال العام والمشاركة السياسية، ليصبح المستقبل السياسي للمجتمعات مرتهناً بنضوج العلاقات العاطفية بمعناها الواسع بين أفرادها. لكن المؤلف يشير أيضاً إلى ما يسميه بالمستوى القضائي والسياسي قاصداً به الحقوق القانونية التي يتمتع بها الفرد في المجتمع، وما يخلقه احترامها من شعور الفرد باعتراف المجتمع به كإنسان له حقوق وواجبات يتعين الالتزام بها، فاعتراف المجتمع بالحقوق القانونية للفرد هو اعتراف أيضاً بفردانيته ودليل على اهتمام لا يمكن إغفاله. ويبقى المستوى الثالث الذي اقترحه المؤلف، هو الأكثر أهمية لتركيزه على الخصوصية الثقافية للفرد ومدى اعتراف المجتمع به ككائن ذي صفات ثقافية يتعين قبولها والتعامل معها. وهنا يثير أكسيل هونيث موضوعاً حساساً يرتبط بالأقليات داخل المجتمعات وضرورة الاعتراف بخصوصيتها المميزة. هذه المستويات الثلاثة من الاعتراف قد تضمن مجتمعاً بلا اختلاف إذا تم التعامل معها لذاتها دون توظيف منفعي من قبل الفاعلين الاقتصاديين. فالمؤلف يعيب على الخطاب الإداري السائد في هذه الأيام، اهتمامه بالجوانب الشخصية للفرد وحرصه على تنمية مواهبه، ليس بحثاً عن مصلحة الفرد النهائية وتحقيقه لذاته في المجتمع، بل فقط لتعظيم الإنتاج والمردودية. زهير الكساب الكتاب: مجتمع الاحتقار: نحو نظرية نقدية جديدة المؤلف: أكسيل هونيث الناشر: أرميلير تاريخ النشر: 2006