"الآخر"... كيف صوره الفكر اليهودي؟ عمل جماعي وموسوعي موسع ورصين، ذلك الذي يضمه كتاب "الآخر في الفكر اليهودي"، الذي جاء مشتملاً على عدد من الدراسات القيمة، تناولت جوانب رئيسية ثلاثة هي؛ "الآخر من المنظور اللغوي والتاريخي"، "الآخر من المنظور الأدبي"، و"الآخر من المنظور الديني والفلسفي"، أي الأجزاء الثلاثة التي كونت هيكل الكتاب الذي نعرض هنا جذاذة تلخص أهم ما احتوى عليه. في الجزء الأول تساهم الدكتورة نازك إبراهيم عبدالفتاح بدراسة عن "موسى والآخر في ضوء البراجماتية اللغوية"، وذلك انطلاقاً من ثلاثة مفاهيم للغة، كلها تتفق مع فكرة أن معنى المنطوق يحدد بدقة بناء على شروط استخدامه، والتي تتلخص؛ إما في ورود المنطوق ضمن موقف معين، أو اشتمال المنطوق على موضوعات كلام تتعلق بالمنطوق ذاته، أو أن يقوم النشاط المنتج للمنطوق على قصد بعينه. واستناداً إلى هذه المداخل الثلاثة معاً، فإن الآخر في قصة موسى عليه السلام، كما تقول الباحثة، قد يكون ابنة فرعون (التوراة)، أو امرأة فرعون (القرآن الكريم)، أو من تقبله كاهن مدين، أو هارون أخوه الذي تقبله. كما أن الآخر أيضاً هو من حاباه فرعون السابق أثناء طفولة موسى، ومن لم يؤمن برسالة موسى (من أبناء عشيرته)... وفي دراسة دلالية أخرى، نطالع بعض "المصطلحات الدالة على الآخر- غير اليهودي- في المشنا"، حيث يناقش الدكتور مصطفى عبدالمعبود أهم المصطلحات التي استخدمها الحاخامات في المشنا للإشارة إلى غير اليهود. وكما يرى الباحث فإنه نتيجة لتتابع الأحداث في حياة اليهود وتناقضها مع ما يعج به "العهد القديم" من وعود وآمال عمقت في النفس اليهودية معاني الخصوصية والاختيار الإلهي، عمد رجال الدين اليهود إلى تطوير مصطلحات "العهد القديم"، لكي يعمقوا لدى اليهودي إحساسه بالتفرد والتميز، وليظل محتفظاً بهويته وملتزماً بقواعد تشريعية في إطار معاملاته مع أبناء الشعوب الأخرى. وتخلص الدراسة إلى أن نظرة الحاخامات التي ضمنوها في "المشنا"، هي نظرة لا تخلو من الازدراء والاحتقار، بل تضمنت "أحكاماً صريحة تنص على نجاسة غير اليهود وكل ما يتعلق بهم من أرض أو متاع". وبذلك أصبحت قسمة العالم إلى جزأين؛ أحدهما خاص بالمختارين الأخيار (اليهود)، وثانيهما لباقي الشعوب التي حرمت من ذلك الاختيار... مكوناً رئيسياً من مكونات الهوية اليهودية! ويغوص الدكتور حسين محمد يوسف في "تراث العداء الذاتي لليهود"، من خلال البحث في ما دونه يوسف بن متاتيا، المتوفى عام 100 للميلاد، عن "الحرب اليهودية الأولى"، وهو كتاب تحول إلى جزء من التوراة نفسها. لقد كان الانقسام الديني الداخلي ما بين "الفريسيين" و"الصدوقيين"، سبباً رئيسياً وراء حرب اليهود، حيث حدثت في إنطاكية عام 41م، فتنة أسفرت عن مذبحة كبرى بين اليهود، مما أوجد حالة من "كراهية الذات" وكراهية الآخر لدى الحركات والمذاهب اليهودية. وترى الدراسة أيضاً أن تحريف التوراة وانصراف اليهود عنها إلى التلمود، كان من شأنه تكوين طبقة الكهنة الذين تشبثوا بالماديات وقدموها على الروحيات، ما أدى إلى شيوع قيم تفضيل الشخص لذاته على كل ما عداها، وذلك بداية الطريق نحو إنكار الآخر وإعلاء قيمة الذات وما يتصل بها من قيم مادية. وبالانتقال إلى الجزء الثاني من الكتاب، نقف على دراسة عن "الآخر بين الرفض والقبول في المقامات العبرية الأندلسية"، وفيها تعتمد الدكتورة سامية السيد فرحات على نماذج من هذه المقامات، لإبراز الصورة الحقيقية للفكر اليهودي تجاه الشخصية العربية، بما في ذلك الادعاء المفرط في الكذب على المسلمين الذين أحسنوا وفادة اليهود طوال إقامتهم معهم في الأندلس. وتتجلى تلك المغالاة في ظهور الآخر العربي كبدوي غير متحضر يقيم في الصحراء ويسكن الخيام! وكذلك في محاولة إظهار تفوق الشخصية اليهودية على نظيرتها العربية، ومحاولة الكيد للدين الإسلامي والنيل منه... ويحلل الدكتور أحمد حماد علاقة "الذات والآخر"، مقارناً بين الأدبين العبري والفلسطيني، فيوضح أن الأدب العبري بدأ يهتم بالشخصية العربية منذ أولى خطواته في فلسطين. لكنْ من الكتاب العبريين نفر قليل عرف العربي على حقيقته، فصور حسناته وسيئاته معاً، ومنهم غالبية أبرزت سيئات "الآخر العربي" وبالغت في إظهارها وتضخيمها ولفقت من عندها الشيء الكثير. أما عن تصور الأدب الفلسطيني للشخصية الإسرائيلية، فيقول الدكتور حماد إن هذا الأدب عبر هو أيضاً عن نظرته للشخصية الإسرائيلية من خلال الصراع على الأرض، فهي بالنسبة له "شخصية لا خلاق لها، همها الأكبر هو الاستلاب والاغتصاب؛ اغتصاب الأرض والعرض". وعلى علاقة بذلك الموضوع، نجد دراسة عن "الاستشراق الإسرائيلي في رواية العروس المحررة ليهوشواع"، إذ يوضح كاتب الدراسة الدكتور يحيى محمد عبدالله أن تلك الرواية تمثل من ناحية موضوعها امتداداً طبيعيا لأعمال "ا. ب. بهوشواع" ذات الصلة بالجوار العربي لإسرائيل، ومن هنا فقد راح ينبش في الواقع والتراث العربيين، متجاهلاً واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فجاءت الرواية حافلة بكثير من الوقائع "التاريخية" والمواد "الأدبية" المزيفة، ما ينتقص من الرواية في شقها الفكري. ويعتقد الدكتور عبدالله أن الاستشراق الإسرائيلي، من حيث أهدافه وأدواته، لا يختلف في شيء عن الاستشراق الغربي، وهو مرتبط قلباً وقالباً بالأيديولوجية الصهيونية. وفي مستهل الجزء الثالث من الكتاب، نجد دراسة غير عادية للدكتور عامر الزناتي الجابري، حول "الذاتية في نقل السيرة النبوية إلى اللغة العبرية"، وذلك بالاستناد إلى ترجمة قام بها المستشرق اليهودي الدكتور يوسف ريفلين (ولد في القدس وتوفي عام 1971)، لسيرة ابن هشام بأجزائها الأربعة، إلى اللغة العبرية. ومن خلال مقارنة متأنية ودقيقة لذلك العمل، يصل الدكتور الجابري إلى أن المترجم سيطرت عليه الروح الاستشراقية السلبية، كما أظهرت أخطاؤه اللغوية وحالات سوء الفهم الكثيرة التي وقع فيها، عدم إلمامه بأدوات بحثه، بل كانت تدخلاته مغرضة ومسيئة للسيرة النبوية ولصاحبها صلى الله عليه وسلم. وأخيراً نطالع في الجزء الأخير أيضاً دراسة عن "المنظور الديني للصراع على الأرض في فتاوى الحاخامات اليهود"، إذ يستخلص كاتبها الدكتور عمرو عبدالعلي أن الأرض بالنسبة لأولئك الحاخامات هي المطلق وهي القيمة التي تجبُّ كل القيم الأخرى، ومن ثم ففتاواهم تسد الباب كلياً أمام أي حوار أو تفاوض على الأرض. محمد ولد المنى الكتاب: الآخر في الفكر اليهودي المؤلفون: جماعة مؤلفين الناشر: دار العلوم للنشر والتوزيع تاريخ النشر: 2006