تصلني العديد من الرسائل عبر بريدي الإلكتروني، منها ما يؤيد أو يعترض على ما أكتب ومنها ما يعقّب أو يبدي ملاحظات معينة، وهذا أمر يسعدني ويشعرني في الوقت نفسه بأن هناك تواصلاً قوياً بين الكاتب والقارئ. ومن هذه الرسائل التي وصلتني، رسالة من إحدى السيدات تقول فيها: "عندما قرأت مقالك: الزكاة والدور الاجتماعي للأثرياء، قررت أن أكتب لك تجربتي. أنا لبنانية من أصحاب الشهادات العالية، أتحدث ثلاث لغات، توفي زوجي بعد زواجنا بسنتين، تاركاً لي طفلاً صغيراً يحتاج كل أمومتي وصبري وكفاحي، ليعيش ويحقق في المجتمع طريقاً يخرج منه إلى برّ الأمان والسلامة، كانت رسالتي في هذه الحياة أن أربّي ابني". ثم تواصل هذه السيدة شرح تجربتها والظروف التي مرت عليها، قائلة إنها مرت بظروف قاهرة، تعرض ابنها لحادث جعله يرقد طويلاً في المستشفى، وفقدت وظيفتها وتراكمت الديون عليها. وما أرادت أن تقوله في رسالتها، هو التأكيد على ما تحدثت عنه في مقالي السابق، وهو ظاهرة تهرب بعض الأثرياء من مسؤولياتهم الاجتماعية تجاه المجتمع والفقراء وأصحاب الحاجة، وهذا أمر بالفعل يحيرني، خاصة عندما أجد بعضهم يهدر الأموال الطائلة، ولا يجد الفقير وصاحب الحاجة في أجندتهم المالية مكاناً يسد به حاجته وفقره وظروف عيشه. والسؤال المهم هنا: ما الذي حدث؟ كيف تغيرت مفاهيم وقيم أصحاب الثروة نحو الخير؟ ما الذي جعلهم يعيشون في عزلة عن مشاكل المجتمع؟ يتضح الرد من خلال التفسير المباشر لهذه الحالة، وذلك في أربع نقاط كالآتي: 1- تأثير الانفتاح الشديد الذي شهده المجتمع خلال العقود الثلاثة الماضية، بأبعاده وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية. 2- التحولات الفجائية والسريعة في التركيبة السكانية والاجتماعية وفي الجسم الاقتصادي، وظهور فئات تملك الثروة دون إنتاج فعلي، ونجاح فئات طفيلية أخرى في نشر قيم الربح السريع والأنانية والجشع. 3- تآكل القيم الاجتماعية والأخلاقية، خاصة تلك التي كان لها دور مؤثر في تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء. 4- تراكم الأموال في يد عدد من الأثرياء دون جهد، بسبب الانفتاح الحاد، وظهور الكسب القائم على الخداع والتلاعب والفهلوة. ومكمن الخطورة هنا، هو الآثار الاجتماعية التي ستحدث نتيجة تفشي هذه الظاهرة مثل: التفاوت الحاد بين الفقراء والأغنياء، وتولد حالة من الحقد والكراهية تضر بالانسجام الاجتماعي والنفسي للأفراد. هذه الصورة القاتمة لا يجب أن تجعلنا ننسى الدور المشرق الذي يقوم به بعض الأثرياء تجاه وطنهم وتجاه دعم العمل الخيري في المجتمع، والذي يعمل على تقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين وخدمة المجتمع بأكمله، هناك نماذج كثيرة مشرقة تفرض نفسها من خلال العمل والإنجازات التي تطرحها في المجتمع. ويكفي مثال واحد ما قاله أحد الدعاة عن أحد المحسنين الكويتيين رحمه الله: ذهبت أصلي معه صلاة الظهر في المسجد فقال: اجلس معي يا شيخ حتى تشهد أنني أوقفت الآن سبع عمارات هي أكبر ثروة عندي في البلد تقدر بالملايين، للأرملة واليتيم والمسكين والفقير. نحن لسنا ضد من يمتلكون الثروة بصورتها الشرعية السليمة، بل ضد من تتكون عندهم الثروة بالطرق غير الشرعية التي ذكرناها سابقاً، سواء في مفهوم الكسب أو العطاء، ضد من يشعرون بالتعالي على المجتمع، وكأن المجتمع لم يكن له فضل عليهم، ضد من يستغلون الوطن والمجتمع لتكوين ثروتهم، ضد من لا يشاركون في خدمة المجتمع وحل معاناة الفقراء والمحتاجين. كل ما أتمناه هو أن يكون الأثرياء عندنا في مستوى ما يفعله بعض الأثرياء في الغرب مثل "بيل جيتس"، الذي خصص 80% من ثروته لخدمة المجتمع والفقراء في العالم، والذي قال بصراحة ووضوح: "إنني أعتقد أن مع الثروة الكبيرة تأتي المسؤولية العظيمة، والمسؤولية العظيمة هنا، هي أن نعيد هذه الثروة إلى المجتمع بأحسن الطرق".