لقد داومت على الزيارات المتكررة للصين منذ عام 1990، وفي كل مرة كانت تشدني على نحو خاص أريحية أهلها في الحديث مع الغرباء، مقابل صعوبة التنفس التي يعانونها. لكن ما أن خرجت من غرفتي بأحد فنادق شنغهاي في صباح اليوم التالي، حتى شعرت بأن الفندق الذي أقيم فيه قد شبت فيه النيران، من شدة كثافة سحابة الدخان التي كانت تحيط به، جراء حرق المزارع المحيطة به عقب موسم الحصاد. وكانت تلك هي المرة الأولى التي شعرت فيها بأن الصين تقترب من الوصول إلى سقفها البيئي الأعلى. وما لم تتجه إلى المزيد من سياسات الخضرة والاستدامة، من حيث التصميم ووسائل النقل والترحيل، وكذلك في الإنتاج وتوليد الطاقة، فليس مستبعداً أن تتحول هذه المعجزة الصينية المذهلة، إلى كابوس بيئي. فعلى امتداد الثلاثة عقود الماضية، واصل الاقتصاد الصيني تحقيق نمو سنوي بنسبة 10 في المئة تقريباً، بسبب انخفاض أجور العمالة إلى جانب عدم الاهتمام بما يلقى سنوياً من نفايات في الأنهار والهواء. والشاهد أن ما تفعله الصين اليوم، ليس سوى مكافئ آخر لمثال سقوط أحدهم من الطائرة بوهم أنه يطير، على حد قول "روب واتسون"، الخبير في شؤون البيئة الصينية ورئيس شركة "إيكوتيك العالمية" المتخصصة في إنشاء المباني الخضراء. ومضى "روب" مستطرداً في شرح فكرته هذه بقوله: فحين يسقط أحدهم من الطائرة، يظن خلال الدقائق الخمس الأولى لسقوطه أنه يطير فعلاً، إلى أن يصطدم بالأرض والواقع معاً، فتكون النهاية المأساوية المحتومة. غير أن الذي يقتُل ليس هو الارتطام بحد ذاته، بقدر ما تفعل فجائية التوقف. وهذا هو ما سيحدث للاقتصاد الصيني، ما لم ينتبه المسؤولون. فما أن يبلغ الشد والتوتر مبلغه بنظام بيئي اقتصادي ما، حتى يكف في لحظة ما عن العمل، ويصاب بالسكتة. والحق أن المسؤولين الصينيين يدركون هذا الأمر، إلا أن استجابتهم تحدها تدفقات ملايين الصينيين المهاجرين من الريف إلى المدن. وفي نظر هؤلاء المسؤولين، فإن الاستقرار السياسي للبلاد، يتحقق عبر إيجاد الوظائف لهؤلاء، مع العلم بأن توفير الوظائف يعتمد بدوره على النمو، الذي يعتمد بدوره على أن تحافظ الصين على كونها الدولة الأدنى تكلفة في إنتاج كل شيء تقريباً. وبحكم هذا المنطق، فلا بديل سوى القول: فلتذهب البيئة إلى الجحيم! ومشكلة الصين أنها لا تستطيع أن تفعل ما يفعله الغرب، أي أن تنتج اليوم وتأتي لتنظف غداً. والسبب أن حجم وسرعة معدل إنتاجها السنوي، ربما يؤجلان هذا الغد إلى أجل جد بعيد ومجهول. وعلى حد التقرير المنشور في صحيفة "تشينا ديلي" الصينية، فقد اكتمل حصاد 24 مليون فدان خلال الأسبوع الحالي، مما يعني تلويث عُشر مساحة الأراضي الصالحة للزراعة فيها، وهو ما يشكل مهدداً جدياً للأمن الغذائي الصيني. وإذا ما علمنا أن نصف الأنهار الصينية ملوثة هي الأخرى، فليس من عجب ألا تنطبق معايير الخلو من التلوث البكتيري التي تتبناها الحكومة، على نسبة 9 في المئة من مصادر مياه الشرب فيها، بين جملة الـ243 محطة ريفية لضخ مياه الشرب التي جرى اختبارها لهذا الغرض مؤخراً. وبسبب ارتفاع نسبة نترات الصوديوم في الكثير من الآبار التي تضخ منها مياه الشرب، فقد ارتفعت المخاوف من احتمال إصابة أعداد كبيرة من المواطنين بأمراض سكر الدم والكلى. وعليه فلا عجب أن يتهرب الكثير من العاملين في مجال التقنية المتقدمة من العمل في الصين، مخافة العيش في "سحابة قذرة" على حد وصفهم. ويتخوف المسؤولون الصينيون من ناحيتهم من أن تكف بلادهم عن أن تكون تلك الدولة المعروفة على الصعيد العالمي بانخفاض تكلفة إنتاجها لكل شيء، فيما لو نهجت نهج الخضرة والنظافة البيئية الأميركي. وأكثر ما يخيفهم أن يؤثر ذلك سلباً على توفير الوظائف. تلك هي ملاحظة "دان روزين"، الخبير في الاقتصاد الصيني ورئيس "الهيئة الاستشارية الاستراتيجية الصينية". ولكن الذي يفوت هؤلاء المسؤولين حقاً، هو أن التحول نحو الخضرة ليس معضلة، بقدر ما هو فرصة اقتصادية كبيرة، تمكن الصين من أن تكون دولة رائدة في ابتكار تكنولوجيا الحلول البديلة الخضراء زهيدة التكلفة، على حد ملاحظة الخبير "واتسون". وحين أبحرت مع "روزين" من شنغهاي إلى دلتا جزيرة "شومنج" في ذلك اليوم، ورأيت كيف تسعى شنغهاي لبناء أول مدينة بيئية عالمية هناك، اعتماداً على فكرة السياحة البيئية، ورأيت تلك الخضرة وانهمار المياه في المنطقة الغرينية من الدلتا، وانهماك الناس في التقاط سرطانات البحر، خيل إلي أن في وسع الصين أن تحول مسار اقتصادها الحالي نحو الخضرة. ولكن سرعان ما تتبددت هذه الظنون والآمال، ما أن يرى المرء مشروع ذلك الجسر العملاق، الذي يتوقع له أن يربط منطقة "شومنج" بوسط شنغهاي. ولك أن تتخيل أي مصير مأساوي يحدق بتلك السهول الجميلة الخضراء، ما أن يكتمل بناء الجسر، وتتدفق عبره الشاحنات والملايين من البشر إليها. ولنذكر هنا مقولة القطة السوداء والقطة البيضاء الشهيرة، المنسوبة إلى "دينج زياوبنج" في وصفه للاقتصاد الصيني. فسواء كانت القطة سوداء أم بيضاء، فإنها قطة وفي استطاعتها الإمساك بالفأر. وما هذا الفأر سوى تحقيق النمو الاقتصادي، كما قال "روزين" معلقاً. ولكن الأفضل لهذا القط أن يتحول إلى قط أخضر، من أن يموت قبل إمساكه بالفأر! توماس فريدمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"