إقرار الرئيس بوش في آخر شهر أكتوبر الماضي بأن المقارنة بين هجمات رمضان في العراق وبين هجوم" تيت" في فيتنام "يمكن أن تكون صحيحة" ركز الأضواء مجدداً على سجال (فيتنام- العراق). هذا السجال يشير، ضمن أشياء أخرى، إلى أن الديمقراطيات تخسر الحروب أمام حركات المقاومة ذات العزيمة والإصرار القوي، لأن الديمقراطيات تمتنع عن استخدام العنف غير المقيد. والحقيقة أن القول إن الديمقراطيات يمكن، إذا ما استخدمت قدراً أكبر من العنف أن تهزم المقاومة لمشروعها في الهيمنة واستغلال الشعوب الأخرى، هو قول ينمُّ عن رؤية قاصرة وعن اعتقاد باحتكار الصواب بصدد قضية معينة لا ينهض على أساس. ومثل هذه الأقوال لا تساهم في إزالة الأوهام لأنها إما تقوم على تحليلات خاطئة، أو تركز على أوجه شبه تافهة من الناحية الاستراتيجية، ولا تهتم بشكل كافٍ بالحقائق الجوهرية للحرب في كل من العراق وفيتنام. وفي الحقيقة أنه توجد عدة أوجه شبه واضحة بين الحربين ولكنها تغيب عن السجال المتعلق بهما. وجه الشبه الأول هو أن كلا الحربين قد قامت بناء على كذب صريح. فالاستخبارات الأميركية قبل الحرب الفيتنامية زيفت معلومات كان الغرض منها أن يبدو الأمر وكأن فيتنام الشمالية قد هاجمت المدمرات الأميركية في خليج "تونكين". وبالنسبة للعراق، فإن تلك الحرب أيضاً وقعت، بعد أن شوهت إدارة بوش معلومات استخباراتيه كان الهدف منها خداع الرأي العام الأميركي ودفعه لتأييد حرب ضد العراق كان مخططاً لها منذ وقت طويل. وجه الشبه الثاني الواضح بين الحالتين الفيتنامية والعراقية هو الادعاء القصير النظر، القائل إن أميركا لو لم تقم في الحربين بمهاجمة العدو، لكان العدو قد قام بنقل الحرب إلى الأراضي الأميركية ذاتها، وأنه إذا ما سمحت الولايات المتحدة لأحد حلفائها -حتى لو كان فاسداً ووحشياً بالانهيار- فإن حلفاء أميركا الآخرين سينهارون واحداً وراء الآخر كما يحدث في لعبة الدومينو. فالرئيس جونسون قبل الحرب الفيتنامية قال شيئاً يعني أن الولايات المتحدة لو لم تفعل ذلك، فإن الأعداد التي لا حصر لها من الجماهير الفقيرة في مختلف أنحاء العالم سيأتون إلى أميركا كي يستولوا على ما لديها من خيرات. ودونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي الذي استقال مؤخراً قال في معرض تبريره للحرب العراقية أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس "الشيوخ" إن أميركا لو تركت العراق قبل أن يحين الأوان فإن: "أعداءنا سيأمروننا بمغادرة أفغانستان ثم الانسحاب بعد ذلك من الشرق الأوسط... وإذا ما تركنا الشرق الأوسط، فإنهم قد يأمروننا بعد ذلك بترك الأراضي التي يعتبروها أراضي إسلامية محتلة بدءاً من أسبانيا وحتى الفلبين". وجه الشبه الثالث الغائب عن سجال فيتنام –العراق ولعله الأكثر أهمية هو تلك المحصلة المسلَّم بها وهي أن الشعوب تقوم في النهاية بمعارضة وقتال القوى التي تسعى إلى إخضاعها واحتلالها والهيمنة عليها. وأن الشعوب لا يمكن أن تحكم إلا بالطريقة التي توافق عليها، كما قال الرئيس "وودرو ويلسون" للقوى الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى. لذلك يمكن القول في النهاية إن ادعاء الصواب وخداع النفس سواء على مستوى صناعة السياسة أو مستوى تحليها، لا يساعد على بناء تقييم واقعي لأسباب فشل الديمقراطيات أمام حركات المقاومة ذات العزم والتصميم، ولا على بناء تقييم واقعي لعبثية وعدم جدوى محاولة إخضاع واستغلال الشعوب والهيمنة عليها. في النهاية يمكن القول إن الاعتراف بهشاشة النظم الديمقراطية، وهشاشة الحالات التي يقوم فيها المسؤولون المنتخبون بخداع شعوبهم، وإهدار موارد بلادهم على خدمة أهداف ومصالح ضيقة، وبمحاولة الحصول على التأييد والدعم لحروب غير عادلة ولا ضرورة لها، أمر مطلوب بصفة عاجلة إذا ما أريد إنقاذ الديمقراطيات من الذين يسيئون استخدامها، والدفاع عن السلوك الدولي المتحضر ضد منتهكيه. وهو اعتراف تقع مسؤوليته في رأيي على المواطنين. عادل الصفتي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ زائر بالأكاديمية السيبيرية للإدارة العامة - روسيا .آخر مؤلفاته كتاب:"القيادة والديمقراطية" الذي نشر في لندن.