على عكس ما يعتقد الكثيرون، يعتبر مرض الصرع من أكثر الأمراض العصبية انتشاراً على الإطلاق. حيث تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى وجود أكثر من خمسين مليون شخص مصابين بالصرع حول العالم. ففي الولايات المتحدة وحدها، يوجد أكثر من 2.7 مليون شخص مصابين بالصرع، ومع كل عام جديد يزداد هذا الرقم بمقدار 180 ألفاً من الأميركيين الذين يصابون بالصرع للمرة الأولى. ولا يختلف الحال في بريطانيا كثيراً عن الولايات المتحدة، حيث يصيب الصرع أكثر من 300 ألف شخص، ويتم تشخيص ثمانين حالة إصابة جديدة في اليوم الواحد. وبوجه عام، يتعرض شخص واحد من بين كل خمسين للإصابة بالصرع، ويتعرض شخص من بين كل عشرين لنوبة تشنج واحدة على الأقل. وهذا الانتشار الواسع للصرع، يجعل قائمة الأشخاص الذين أصيبوا بهذا المرض تبدو كما لو كانت قائمة أعظم رجال في التاريخ. حيث تتضمن هذه القائمة مثلاً، كلاً من: الإسكندر الأكبر، وهانيبعل، ويوليوس قيصر. وفي العصور الحديثة نجد أسماء شهيرة هي الأخرى، مثل أبراهام لينكولن، وفلاديمير لينين، ونابليون بونابرت، والقيصر الروسي بطرس الأكبر. أما على صعيد المفكرين والمبدعين، فلا تقل القائمة أهمية هي الأخرى عن قائمة القادة العسكريين والسياسيين، مثل النحات الإيطالي مايكل أنجلو، والرسام الهولندي فان غوخ، والكاتب البريطاني تشارلز ديكنز، والروائية الشهيرة أجاثا كريستي. ولم يسلم أيضاً الفلاسفة والعلماء من الصرع، حيث أصاب الصرع من بين فلاسفة اليونان القديمة كلاً من أرسطو وسقراط. ومن بين العلماء، أصاب الصرع العالم والفنان الإيطالي ليوناردو دا فينشي، والبريطاني إسحق نيوتن، والسويدي ألفرد نوبل مخترع الديناميت. والغريب أنه رغم هذا الانتشار الواسع للصرع، وإصابته لبعض من أهم الشخصيات في التاريخ الإنساني، ورغم أن الأطباء كتبوا عنه منذ عهد أبوقراط، لا زال السبب خلف معظم الحالات غير معروف أو غير محدد بدقة. فمن المنظور الطبي، يقسم الصرع إلى قسمين: الأول ينتج عن إصابة في المخ أو بسبب عيب وراثي، أما القسم الثاني فيطلق عليه الأطباء مصطلح (Idiopathic)، والذي يمكن ترجمته إلى "مرض في حد ذاته"، أو بمعنى آخر غير معروف السبب لدينا. وبخلاف جهل الأطباء بحقيقة السبب خلف الصرع، يتميز هذا المرض بميزة أخرى، وهي ارتفاع نسبة الخطأ في التشخيص. فمن بين كل ثلاثة أشخاص تم تشخيص إصابتهم بالصرع، نجد أن واحداً منهم لا يستجيب تماماً للعلاج بالعقاقير المضادة للنوبات. ويعتقد الأطباء أن ثلث هؤلاء الأشخاص، غير مصابين بالصرع من الأساس، وأنهم ضحية خطأ في التشخيص. ويعود السبب خلف هذا العدد الضخم من الخطأ التشخيصي، إلى تشابه نوبات الصرع مع نوع آخر من النوبات، تعرف بنوبات التشنج النفسية. وعلى عكس الصرع، والذي يحدث فيه نوع من الزيادة غير الطبيعية في الموجات الكهربائية داخل المخ، نجد أن نوبات التشنج النفسية، وكما يدل الاسم، تحدث نتيجة مشاكل ومصاعب نفسية ليس إلا. وللأسف هذا الالتباس الذي يقع فيه الكثير من الأطباء، يدفع المرضى ضحيته، من خلال تلقي عقاقير وأدوية مضادة للصرع، ولفترة تستمر لمدة سبعة أو تسعة أعوام، قبل أن يكتشف الطبيب المعالج حقيقة مصدر النوبات. وهذه الفترة تكلف المريض مبالغ طائلة، ثمناً لأدوية لا يحتاج إليها، بالإضافة إلى أنها تعرضه للمضاعفات والأعراض الجانبية التي تتسبب فيها مثل تلك العقاقير. وهذا الموقف المؤسف، يعتقد مجموعة من العلماء أنهم قد توصلوا إلى حل عملي له، يمكن تطبيقه بسهولة في العيادات والمستشفيات. فحسب دراسة نشرت مؤخراً في إحدى الدوريات الطبية المتخصصة (Neurology)، توصل علماء معهد "بارو" للدراسات العصبية (Barrow Neurological Insititute) بمدينة فينكس بولاية آريزونا الأميركية، إلى أن شكل ونمط حركة عيني المريض أثناء حدوث النوبة، يمكن أن يوفر دلائل مفيدة في التفرقة بين ما إذا كانت النوبة سببها الصرع أم أنها نتيجة لأسباب نفسية. وفي هذه الدراسة المثيرة، قام الباحثون بتصوير 221 مريضاً باستخدام كاميرات الفيديو أثناء تعرضهم لنوبات التشنج، ليكتشفوا أنه من بين 52 مريضاً معروفاً إصابتهم بنوبات تشنج نفسية، قام 50 منهم بإغلاق عيونهم أثناء حدوث النوبة. ومن بين 156 مريضاً معروفاً ومثبتاً إصابتهم بالصرع، ظلت عيون 152 منهم مفتوحة أثناء تعرضهم لنوبات التشنج. ومثل هذه النتائج إذا ما تم تأكيدها من خلال دراسات مماثلة، فمن شأنها أن تقصر من الفترة التي يستغرقها الأطباء لاكتشاف خطأ تشخيصهم. ولن يحتاج المرضى للبقاء في المستشفيات، كي يتم تصويرهم بكاميرات الفيديو أثناء النوبات، حيث يمكن ساعتها الاعتماد على ملاحظة ووصف أفراد العائلة، عما إذا كان المريض يغلق عينيه أثناء النوبة أم يبقيهما مفتوحتين. وإلى أن يتم إثبات فعالية مثل هذا الأسلوب البالغ في البساطة للتفرقة بين أنواع النوبات، يجب اتباع إرشادات الممارسة الطبية الحالية. وهذه الإرشادات تنص على أن المرضى الذين يتعرضون لنوبات تشنج، يجب علاجهم بالأدوية والعقاقير المضادة للصرع. وإذا ما لم يستجب المريض للدواء، فلابد من تجربة دواء أو عقار آخر عليه، لعدة شهور أو ربما عام أو عامين. وإذا لم يستجب أيضاً المريض للدواء الثاني، فإما أنه مصاب بصرع مقاوم للأدوية، أو أنه غير مصاب بالصرع من الأساس. وفي هذه الحالة، لابد من وضع المريض تحت المراقبة في مركز متخصص في أمراض الصرع، لتحديد نوع التشنجات باستخدام رسم المخ الكهربائي لعدة أيام، والمترافق مع التصوير بالفيديو. د. أكمل عبد الحكيم