يثير المشروع الإيراني -بالمعنى السياسي للكلمة- أصداء متعددة سواء على الصعيد الدولي أو على الصعيد الإقليمي. وربما كانت المبادرة النووية الإيرانية هي التي أثارت بشكل مباشر ردود فعل بالغة الحدة، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو من جانب الدول الأوروبية. بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية كان رد الفعل حاداً لأنها تعتبر نفسها -وهذا هو الواقع– القطب الأوحد في العالم، الذي يحاول باعتباره القطب المهيمن Hegomon السيطرة على مجمل السياسات الدولية، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو حتى في مجال الثقافة. والقطب الأميركي الأوحد لا يقبل أن تتحدى دولة ما هيمنته، وخصوصاً إذا ما تجاسرت وحاولت الدخول في عضوية النادي الذري المغلق. وفي ضوء هذه الملاحظات جميعاً، يمكن القول بلا أدنى مبالغة إننا نعيش عصر الهيمنة الأميركية المُطلقة على العالم. وليس معنى ذلك أن هذه الهيمنة ستستمر إلى الأبد كما يظن المنظِّرون الاستراتيجيون الأميركيون الذين وضعوا استراتيجية مُحكمة من أجل تحقيق هذا الهدف الأسمى، أو أنها يمكن أن تبسط رواقها على منطقة كالشرق الأوسط بغير أدنى مقاومة. وإذا كانت النظرية الاستراتيجية الأميركية في الهيمنة المطلقة والدائمة على العالم، تقوم أساساً على ضرب أي محاولة لأي دولة تحاول تحدي الولايات المتحدة الأميركية حتى لو تم ذلك عسكرياً لضمان أن يبقى النظام الدولي أحادي القطب، فإن هناك نظرية استراتيجية صينية مُضادة تحاول مواجهة هذا النموذج الأميركي بوضع قواعد المنهج لتأسيس عالم متعدد الأقطاب. وفيما يتعلق بالهيمنة المطلقة على منطقة الشرق الأوسط من خلال الغزو العسكري للعراق، وأوهام إعادة تشكيل نظام سياسي ليصبح تجربة ديمقراطية تحتذى في العالم العربي، أو عن طريق الفوضى الخلاقة لتأسيس شرق أوسط جديد، فإن الهزيمة الأميركية المدوية في العراق أطاحت تماماً بهذه الأوهام الإمبراطورية! ولسنا نحن في العالم العربي ممن ينتقدون السياسة الأميركية ويعارضون مخططاتها الاستعمارية في الشرق الأوسط ودعمها المطلق للدولة الإسرائيلية مهما تمادت في جنونها إزاء الشعب الفلسطيني وخوض حرب إبادة ضده الذين يصدرون عن هذا الرأي، ولكن عدداً من أبرز المنظرين الأميركيين وعلى رأسهم "ريتشارد هاس" هم الذين يؤكدون بداية عملية انهيار المشروع الإمبراطوري الأميركي بالمعنى التاريخي للكلمة. ويكفي أن يقرر "هاس" في صدر مقالته المهمة التي نشرها في العدد الأخير من مجلة "الشؤون الأجنبية" والتي جعل لها عنواناً ملفتاً للغاية وهو "نهاية الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط": "انتهى زمن الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المنطقة الحديث. وسيحدد مصائرها ممثلون جدد ورؤى جديدة تتنافس على النفوذ. وحتى تستحوذ واشنطن عليها سيكون عليها أن تعتمد على الدبلوماسية أكثر من اعتمادها على القوة العسكرية". وبناء على أطروحات "ريتشارد هاس" يمكن القول إن مستقبل المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط سيتوقف ليس فقط على رد الفعل الأميركي أو الإسرائيلي على التحدي النووي الإيراني، بل أيضاً على التغيرات في مسار المشروع الأميركي في المنطقة، بالإضافة إلى ردود الفعل الإقليمية. وهذا الموضوع المهم هو الذي اجتمع بصدده في إطار "منتدى الاتحاد" الذي نظمته جريدة "الاتحاد" في أبوظبي في السابع من نوفمبر الجاري مجموعة من الكتاب العرب الذين ينتمون لاتجاهات سياسية شتى لمناقشته في أربع جلسات متتالية، حفلت بنقاش فكري مثمر، تعددت فيه وجهات النظر وألقيت الأضواء على المكونات الأساسية للمشروع الإيراني. ولعله من المناسب قبل مواصلة النقاش أن نلقي نظرة عامة على الملامح الأساسية للمشروع الإيراني. وتتمثل هذه الملامح في نظر بعض الخبراء العرب في أن الرؤية الإيرانية الاستراتيجية طويلة المدى تقوم على أساس بناء قوة يعتد بها في الإقليم، في ضوء تعريف القوة بالمفهوم الشامل الذي تتعدد أبعاده وتتكامل أدواته. ورؤية إيران الاستراتيجية واضحة في كونها تريد أن تكون هي وليس غيرها القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة. ولذلك هي في محاولتها اكتساب القوة بمفهومها الشامل تعتمد على أبعاد سياسية واقتصادية وعسكرية، ولا تغفل أبداً القوة المعرفية للدولة، والتي تقوم أساساً على تطوير البحث العلمي والتكنولوجي. وهى في هذا الصدد تدرك بوضوح أهمية الانتقال الكيفي التي حدثت في بنية المجتمع العالمي من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي، والذي يتحول ببطء وإن كان بثبات إلى مجتمع المعرفة، الذي لا يقوم إلا على أساس اقتصاد المعرفة. وإذا كانت هذه هي الملامح الرئيسية للمشروع الإيراني فإنه يقف مضاداً له المشروع الأميركي المثلث الأبعاد، والذي يتمثل بُعده الأول في الهيمنة على مقدرات المنطقة، والثاني هو الضمان المطلق لأمن إسرائيل، وثالث هذه الأبعاد وأهمها ولاشك ضمان تدفق النفط بأسعار معقولة. وفي هذا البعد الثالث تحاول إيران تهديد المشروع الأميركي، ويبدو ذلك حين تصرح بعض المصادر الإيرانية بأن رفع سعر برميل النفط إلى مئة دولار مسألة عادلة، أو كما قرر أحمدي نجاد رئيس إيران لماذا لا تدفع الولايات المتحدة الأميركية السعر الحقيقي للنفط؟ غير أنه يمكن القول إن رد الفعل الإقليمي إزاء المشروع الإيراني تتقاسمه رؤيتان متضادتان، وقد ظهرت هاتان الرؤيتان واضحتين جليتين في مناقشات "منتدى الاتحاد" في ندوة أبوظبي. الرؤية الأولى ترى أن المشروع الإيراني يحمل بعض المخاطر للأمن القومي العربي، وقد يؤدي في مجال الواقع إلى انتقاص من الأدوار العربية، وذلك على أساس أنه لا سقف للطموح إيران التي تريد أن تتوسع في دائرتها الإقليمية. وتعطى شواهد على ذلك من زيادة الثقل الإيراني في الجبهة الداخلية العراقية. ويمكن القول إنه بعد أن مضت مرحلة تصدير الثورة التي ميزت المسيرة الثورية الإيرانية في السنوات الأولى، إلا أنها عادت من جديد بعد تولي أحمدي نجاد رئاسة إيران، حيث حفلت خطاباته بأفكار أممية تدعو لنصرة المستضعفين في العالم، مما دعا عديداً من الدوائر إلى التأكيد على أن عملية تصدير الثورة عادت من جديد. ولكن هناك رؤية مضادة ترى أن هذه المخاطر التي تنسب إلى المشروع الإيراني تتضمن مبالغات متعددة، وأنه يمكن أن تتقاطع المصالح العربية والإيرانية. وعلى ذلك ليس هناك ما يدعو الدول الطامحة إلى لعب دور إقليمي متميز مثل مصر والسعودية وإيران إلى أن تعتبر المسألة مباراة صفرية بحيث إذا ارتفعت مكانة دولة منها انخفضت بالضرورة مكانة الدولة الأخرى. ومما يؤكد على واقعية هذه الرؤية أن إيران نجحت في السنوات الأخيرة في عقد مبادلات تجارية مهمة بينها وبين السعودية والكويت، مما يدل على أن سيناريو التعاون بين إيران والدول العربية ليس تصوراً مثالياً مستحيل التحقيق بل إنه واقع فعلي قابل للنمو. ومن هنا يمكن يقول البعض إنه من خلال التفاهم والتفاوض يمكن أن تكون إيران قوة مضافة للقوة العربية التي تعاني في الوقت الراهن أزمة في توحيد الاتجاه. والواقع أن النظام الإقليمي العربي يعاني في الوقت الراهن من جوانب تشقق متعددة. بعضها يرجع للاختلاف الجوهري في سياسة بعض الدول العربية إزاء إسرائيل، والتي كانت تقليدياً هي المهدد الأساسي للأمن القومي العربي. وعلى رأس هذه الدول مصر والأردن اللتان أبرمتا معاهدتي سلام مع الدولة الإسرائيلية. وإذا أضفنا إلى ذلك دولة قطر التي عقدت علاقات سياسية متعددة مع إسرائيل، لأدركنا أن هذا يعد معسكراً مستقلاً داخل المحيط العربي، حيث توجد دول ليست لها علاقات مع إسرائيل، وبعضها مازال يعتبرها هي مصدر التهديد الأول. ومن ناحية أخرى لاشك أن الغزو العراقي للكويت الذي تم في عهد الرئيس العراقي المخلوع، كان مصدراً إضافياً من مصادر سقوط نظام الأمن القومي العربي التقليدي. ولو نظرنا لنمط التحالفات العربية الأميركية والتحالفات العربية الغربية عموماً لوجدنا تطورات لافتة للنظر، وخصوصاً بعد الحوادث الإرهابية التي وقعت ضد الولايات المتحدة الأميركية في سبتمبر 2001. فقد وقع عدد من الدول الخليجية معاهدات دفاع مهمة مع الولايات المتحدة الأميركية، كما عقد صفقات سلاح بأرقام فلكية سواء مع أميركا أو مع الدول الغربية. وهكذا يمكن القول إن الاختلافات العميقة بين الدول العربية في سياساتها إزاء إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية أو إيران في مشروعها الإقليمي الطموح، تحتاج إلى جهود سياسية ودبلوماسية، لتوفير حد أدنى من الاتفاق لصياغة رؤية عربية استراتيجية، تسمح للعالم العربي بأن يسبح في محيط العاصفة التي اجتاحت النظام الدولي بحد أدنى من الأمان.