ليست هناك علاقة آلية بين هزيمة "الحزب الجمهوري" في انتخابات التجديد الجزئي للكونغرس، ومستقبل تيار "المحافظين الجدد" صاحب النفوذ القوي في هذا الحزب. قد تكون نتائج هذه الانتخابات بداية انحسار في نفوذ "المحافظين الجدد", وقد لا تكون. وحتى إذا حدث مثل هذا الانحسار, فلن يكون فورياً وسيرتبط بعوامل عدة داخلية وخارجية مؤثرة على معادلة العلاقة بين شعبية "الحزب الجمهوري" ونفوذ التيار الذي صعد إلى مركز الصدارة داخله بشكل تدريجي منذ نحو ربع قرن. غير أن أهم ما جاءت به انتخابات الكونغرس، هو الإجابة على سؤال كان مطروحاً على استحياء خلال العامين الأخيرين, وهو: هل يمكن أن يقضي "المحافظون الجدد" في الولايات المتحدة على الديمقراطية التي يرفعون شعاراتها ويروجون لها أو يقولون ذلك, مثلما قضى الستالينيون في الاتحاد السوفييتي السابق على الاشتراكية التي حملوا لواءها ونشروها في العالم وبنوا على أساسها أحد المعسكرين الكبيرين في العلاقات الدولية، لما يقرب من نصف قرن؟ السؤال قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، ولكن غرابته كان يمكن أن تقل لو فاز "الجمهوريون" مجدداً في انتخابات الكونغرس الأخيرة, وبقي "المحافظون الجدد" في غيهم يعمهون, وظل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في موقعه، يخرِجُ لسانه لكل من يستغرب عجز النظام الديمقراطي الأميركي بكل هيلمانه عن محاسبته بسبب سوء أداء فظيع وفشل منقطع النظير. كان رئيس الولايات المتحدة, التي تزعم أنها تعلِّم العالم الديمقراطية, قد عطل بعض أهم آليات هذه الديمقراطية, وهي المساءلة والمحاسبة التي يدفع بموجبها أي مسؤول ثمن سياسة لا مسؤولة. اعتبر الرئيس بوش محاسبة رامسفيلد خطاً أحمر على نحو لا مثيل له في الديمقراطية إلا حين تتحول من وسيلة لتحقيق المشاركة والحرية والتنافس، إلى هدف ينطوي على نزعة أيديولوجية مغلفة تتناقض مع أخص خصائص الفكر الديمقراطي, على نحو ما كانت عليه الاشتراكية الستالينية مثلاً. فإذا قورن الخطاب السياسي النمطي الغالب في أوساط "المحافظين الجدد" الأميركيين خلال السنوات الأخيرة، بالخطاب الستاليني السوفييتي السابق, يمكن استبدال كلمة الديمقراطية بكلمة الاشتراكية, وعبارة التحول الديمقراطي بعبارة التحول الاشتراكي, دون حاجة إلى تغيير جوهري في سياق كل من الخطابين. فالسياق في مجمله مشترك ويتسم بطابع غير ديمقراطي. هذا الطابع الذي ألحق ضرراً فادحاً بالفكرة الاشتراكية، قد يصيب الفكرة الديمقراطية بأذى مماثل. ولكن إذا صح ذلك, ففي أي حدود؟ المعروف أن ثمة فرقاً لا يمكن إغفاله بين الاشتراكية التي ارتبطت بالاتحاد السوفييتي ارتباطاً وثيقاً باعتباره الدولة الاشتراكية الأولى في العالم, والديمقراطية التي نشأت في أوروبا وعرفت طريقها إلى دول عدة بدرجات متفاوتة قبل أن ينقلها أوروبيون هاجروا إلى "العالم الجديد" الذي أقيمت فيه الولايات المتحدة. كانت الديمقراطية واقعاً يزداد رسوخاً في أوروبا يوماً بعد يوم، قبيل تأسيس الولايات المتحدة. ولم تعرِف أميركا الديمقراطيةَ إلا لأن مؤسسيها جاءوا من أوروبا التي كان التطور نحو نظم ديمقراطية بدأ فيها. أما الاشتراكية فلم تكن سوى أيديولوجية قبل نجاح "البلاشفة" في الاستيلاء على السلطة في روسيا القيصرية عام 1917 وإقامة أول نظام اشتراكي. ورغم أن الخلاف على دور الاتحاد السوفييتي في نشر الاشتراكية في العالم، انتهى بانتصار دعاة (بناء الاشتراكية في بلد واحد), فقد توفرت ظروف أتاحت لزعيمه الحديدي ستالين دعم التحول إلى الاشتراكية في شرق ووسط أوروبا. ووفرت هذه الظروف لخلفاء ستالين فرصاً لمساندة مثل هذا التحول وما يشبهه في مناطق أخرى من العالم، دون وجود مقوماته التي لم تتوفر بشكل كافٍ حتى في الاتحاد السوفييتي نفسه, حيث لم يسبقه تطور لعلاقات الإنتاج الرأسمالية يؤدي إلى نضوج طبقة عمالية متزايدة. ولذلك كان قيام الاشتراكية في روسيا مخالفاً للتعاليم الماركسية, لأنها قامت في بلد لم تتطور فيه الرأسمالية. وأياً يكن الأمر فقد كان الاتحاد السوفييتي السابق، والحال هكذا، هو البلد الأم للاشتراكية. ولذلك كانت أخطاء الستاليينية السوفيتية مؤثرة على الاشتراكية في العالم بأسره. وعندما تراكمت الأخطاء إلى الحد الذي أدى إلى انهيار النظام الاشتراكي في الدولة الأم, اقترن ذلك بتفككها وبسقوط النظم الحليفة لها القريبة منها ودخول غيرها في أزمة مستحكمة. غير أن الأمر يختلف كثيراً بالنسبة إلى الديمقراطية. فلا توجد دولة أم. والولايات المتحدة ليست سوى دولة من عشرات الدول الديمقراطية, بل إن نموذجها الديمقراطي الرئاسي كلياً هو أحد أقل النماذج انتشاراً. ولذلك فمن الصعب تصور أن تؤدي أخطاء "المحافظين الجدد" الأميركيين, بل خطاياهم, إلى إلحاق ضرر فادح بالديمقراطية بوجه عام حتى إذا وصلت إساءاتهم لها أبعد مدى. وهم يسيئون إليها بالفعل رغم خطابهم الذي يزعم ولعهم بهذه الديمقراطية وعشقهم لها. غير أن هذا لا يعني أن الديمقراطية كان يمكن أن تنجو من هذه الإساءة في الولايات المتحدة على الأقل. فهذه الديمقراطية كانت قد بدأت تفقد إحدى أهم وظائفها على الإطلاق, وهي مراجعة الأخطاء وتصحيحها. فما يميز النظام الديمقراطي عن غيره هو أنه يمتلك أدوات للتصحيح. هذه الأدوات لم تعمل في العامين الأخيرين, لأن أقطاب "المحافظين الجدد" كانوا فوق المحاسبة اللازمة لإجراء التصحيح الضروري. فكم من مرة مَثُلَ فيها رامسفيلد أمام بعض لجان الكونغرس, وبدا ضعيفاً بل شديد الضعف في الرد على الاتهامات الموجهة إليه بشأن الأخطاء التي ارتكبها منذ أن فرض خطةً للغزو كان من نتائجها إشاعة الفوضى في العراق بعد إسقاط النظام السابق. كما أساء اختيار الفريق الذي أدار سلطة الاحتلال بقيادة بول بريمر وزملائه الذين افتقدوا أدنى معرفة بهذا البلد وتاريخه ومجتمعه وثقافته, فاتخذوا قرارات عشوائية لم يحاسب أياً منهم عليها ولم يخضع من أساء اختيارهم إلى أي مساءلة. كما كان واضحاً تماماً خلو جعبة رامسفيلد من أي جديد يمكن أن يساهم في وقف التدهور الذي ترتب على سياسته في العراق. وأن تنتهي سياسة ما إلى فشل ذريع, فهذا يكفي لإبعاد المسؤول عن هذه السياسة. فإذا أضيف إلى الفشل عجز عن إصلاح السياسة الفاشلة أو مراجعتها أو وضع سياسة جديدة, فهذا يحتم ليس فقط إبعاد المسؤول العاجز, بل سياسته أيضاً. وحين لا يحدث شيء من ذلك في نظام ديمقراطي, لابد أن يكون هناك خلل في بنية هذا النظام نفسه, وليس فقط في أدائه. وقد وضعت نتائج انتخابات الكونغرس حداً لهذا الخلل دون أن تقضي عليه. فمازالت السلطة التنفيذية بين يدي من أحدثوا هذا الخلل. ولم يكن إبعاد رامسفيلد اقتناعاً بل اضطراراً. أما الاقتناع فمازال برؤية لا تكون الديمقراطية فيها أكثر من قشرة تخفي وراءها أنماطاً من التسلط تظهَرُ حين تتاح لها الفرصة. ومن بين هذه الأنماط تصدير الديمقراطية، مثلما سعى الستالينيون السوفييت من قبل إلى تصدير الاشتراكية. لقد حاول الاتحاد السوفييتي السابق أن يدفع دولاً في "العالم الثالث" إلى التحول الاشتراكي بشكل فوري دون توفر مقومات هذا التحول. وسعى بعض المنظرين الستالينيين إلى التحايل على واقع ليس مؤهلاً للتحول الاشتراكي, فاخترعوا ما أسموه (الطريق غير الرأسمالي). وكانت النتيجة أن هذه المحاولات فشلت, وأن الاشتراكية نفسها باتت في خبر كان، إلى أن وجدت من يحييها على أسس ديمقراطية كما يحدث الآن في البرازيل والأرجنتين وتشيلي في أميركا اللاتينية. وقد فشل "المحافظون الجدد" بالفعل, وسيتواصل إخفاقهم, ولكن لن يكون لهذا الفشل أثر يساوي ما ترتب على إخفاقات الاشتراكيين, بسبب الفرق بين الديمقراطية والاشتراكية, وليس بين "المحافظين الجدد" والستالينيين.