في اٍلأسبوع الماضي, جاء استدلالنا حول علامات التقدم المزعوم لفكرة "الشرق الأوسط الإسلامي" واضحاً تماماً. حدث بالفعل تقدم للفكرة, ولكنه في أحسن الأحوال تقدم تكتيكي, وقد يمهد لنكسة استراتيجية, وقد تأتي هذه النكسة أسرع كثيراً مما يظن أنصار الفكرة وخاصة إيران, إن لم يتم تعديل وإصلاح توجهات أساسية للغاية في سياساتها الدولية والإقليمية. تحقق حتى الآن تقدم ما في الجبهة اللبنانية, وتقدم غير مؤكد على المستوى الإقليمي العام. ففي الجبهة اللبنانية نجح "حزب الله" في إسقاط نظرية الردع المبنية على الرعب من الجيش الإسرائيلي, ولو أن النجاح جاء بثمن باهظ للغاية. وكذلك نجحت سوريا في إسقاط المشروع الأميركي لتغيير نظامها السياسي بالقوة والضغط المتواصل عليها، سواء عبر ورقة مقتل الحريري والمحاكمات الدولية أو عن طريق ورقة الضغوط العسكرية الإسرائيلية أو الأميركية والضغوط الاقتصادية فضلاً عن محاولات العزل السياسي في المحيط الدولي. وفي سياق المراجعة الحتمية للسياسة الأميركية نحو العراق، قبل وبعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، قد تبدو سوريا للولايات المتحدة كأحد المخارج المحتملة من المأزق الأميركي في العراق. أما إيران فهي لا زالت حتى الآن ناجحة في إدارة أزمة الملف النووي. وبسبب هذه النجاحات التكتيكية وبسبب المرارات العميقة لدى الشعوب العربية تجاه الولايات المتحدة، تكسب إيران وأنصارها وحلفاؤها أرضية جديدة في الساحة السياسية والثقافية العربية. وفضلاً عن هذه النجاحات، ففكرة الشرق الأوسط الإسلامي تتفوق على غيرها بامتياز لكونها ناتجاً لفكر شرق أوسطي, وليست مفروضة عليه مثل غيرها- وخاصة الشرق الأوسط الكبير- من خارجه, أو من قوى بعضها معاد بشدة للمصالح السياسية للشعوب العربية وبصفة أخص إسرائيل. كما تتفق هذه الفكرة مع الحاجة الموضوعية لإنتاج تجربة ثقافية وسياسية أصيلة وملهمة لشعوب هذه المنطقة بغض النظر عن تعريفها الدقيق. ومع ذلك وبالرغم من هذه المزايا فإن أنصار الفكرة يقعون في أخطاء جوهرية عند تمثل مضمون الفكرة وتدابيرها الواقعية والمؤسساتية. وببساطة وإيجاز لا يمكن أن تحظى أية فكرة حول بناء نظام إقليمي بالنجاح على المدى الطويل بدون إقامتها على قاعدتين أساسيتين: توازن المصالح والأمن الإنساني. والواقع أن الممارسة حتى الآن تخرق هاتين القاعدتين وتضربهما في مقتل. فالواضح أن السياسة الإيرانية بالذات وهي الحامل الأساسي لفكرة الشرق الأوسط الإسلامي تؤسس توجهاتها الإقليمية على مفاهيم القوة. وتشتمل هذه التوجهات على قدر لا يستهان به من العناصر المخيفة لقطاعات واسعة من الشعوب العربية. فثمة قدر كبير من الغطرسة في التعامل الإيراني مع دول المنطقة عموماً ودول الخليج خصوصاً. وثمة أيضاً سياسة فرض الأمر الواقع والتي تظهر بوضوح في استمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث. وعلى نفس الدرجة من الأهمية فإن السياسة الإقليمية لإيران لا تختلف في الجوهر عن السياسات الغربية أو حتى السياسات الإسرائيلية، فيما يتعلق بتقديس القوة. فإيران تقيم سياساتها بنهاية المطاف على القدرات العسكرية وغيرها من أدوات القوة. وفرض الأمر الواقع بالقوة قد يعيش بعض الوقت ولكنه لا يصلح لبناء أي نظام قابل للحياة والاستمرار. ولم تفهم دول غربية كثيرة, كما لم تفهم إسرائيل بالطبع ولا إيران حتى الآن، أن القوة تتغير وموازينها معرضة دائماً للتقلب, وهو ما جاء في المثل العربي الذي يقول بأن الأيام دول بين الناس. ولذلك تبدو فكرة توازن المصالح أساسية للغاية في عملية بناء نظام إقليمي قابل للحياة. ونستطيع أن نؤكد فشل فكرة الشرق الأوسط الكبير التي يطرحها الأميركيون ومن ورائهم إسرائيل لأنها تعني في الجوهر بمأسسة الهيمنة الإسرائيلية والأميركية المشتركة وعلى حساب المصالح والقيم الجوهرية للشعوب العربية والإسلامية التي تعيش في هذه المنطقة. ولذلك تنظر هذه الشعوب لتلك الفكرة باعتبارها محاولة يائسة لاستعادة النظام الاستعماري القديم بآليات حديثة. ولكن الفكرة الإيرانية عن الشرق الأوسط الإسلامي متورطة بدورها أيضاً في مسعى الهيمنة, وهو ما يخرق مبدأ توازن المصالح. إن القلب المحرك لأية عملية لبناء نظام إقليمي هو الأمن. ولكن المفهوم التقليدي للأمن استند أساساً الى مفهوم القوة. وقد عانت شعوب المنطقة طويلاً من مختلف القوى الطغيانية في سياق الاستعمار, وأيضاً في سياق نظم ما بعد الاستعمار. وكانت إحدى مزايا النظام الإقليمي العربي أنه لم يتأسس على القوة بل على الرسالة التحريرية والتنموية, ولكن النظام فقد هذه المزية عندما قام العراق بغزو الكويت فتم إهدار الثقة المتبادلة وسادت الشكوك والمخاوف في العلاقات بين الدول العربية, وهو ما ساهم في دفع هذا النظام إلى التراجع. ساهم في تراجع النظام العربي أيضاً أنه تجاهل فكرة الأمن الإنساني. وتنبثق هذه الفكرة عن الثقافة الإنسانوية التي تقوم على فكرة الإنسان ومركزيته في الكون وقيمته الأصيلة كفرد وجماعة. وقامت دولة ما بعد الاستعمار- وهي تمثل قاعدة أي نظام إقليمي- بإهدار إنسانية الفرد باسم الجماعة أو الأمة أو الطبقة أو الطائفة...الخ. وشاعت انتهاكات حقوق الإنسان بصورة مريعة في مختلف الدول العربية. وقد مزقت هذه الانتهاكات نسيج المجتمع وأدت إلى انكماشه وتعزيز التوحش في بنية الدولة. وبنهاية المطاف أصيبت الثقافة بذات المرض وهو ما أسفر عن شيوع ممارسات لا تحترم إنسانية المواطنين ولا حتى حقهم في الحياة. وفي أحسن الأحوال قد يرث مفهوم الشرق الأوسط الإسلامي هذا المرض العضال نفسه. فتيارات السياسة التي تنسب نفسها للإسلام وعلى رأسها التيار السياسي الحاكم في إيران تمنح لنفسها الحق في إهدار حياة الناس سواء كمواطنين أفراد أو كجماعات نوعية, وإهدار أمنهم الشخصي والجماعي. واستمراراً لهذا الإهدار من المعتقد أن إيران تطور برنامجاً نووياً بدافع حيازة أسلحة ذرية. ويمثل السلاح النووي هتكاً للقاعدتين الأساسيتين لأي نظام إقليمي حديث قابل للحياة: أي توازن المصالح والأمن الإنساني معاً. فامتلاك إيران لأسلحة ذرية يشعل مخاوف شعوب الخليج بل وشعوب عربية أخرى كثيرة بما يشتمل عليه من تهديد أمني ومن تعزيز لفرص الهيمنة الإيرانية فضلاً عن مخاطره البيئية. وهو في نفس الوقت قد يزج بالمنطقة في أية لحظة في حروب ذرية يسقط ضحيتها ملايين من البشر. وبهذا المعنى فإن فكرة الشرق الأوسط الإسلامي قد تحقق نجاحات تكتيكية ولكنها بالمقابل تنشئ ظروفاً غير مواتية للنجاح على المدى الطويل. والواقع أن ما تحتاجه المنطقة بالفعل هو شرق أوسط إسلامي, ولكن بمعنى مختلف كثيراً في الصياغة والممارسة. فطالما أننا ننسب الفكرة للإسلام فلا بد أن يتأسس هذا النسب على أعظم ما في تراث الإسلام وهو نصوصه القائمة على الرحمة (الأمن الإنساني بما فيه من تكافل واحترام للحياة الإنسانية وللحاجات الروحية والمادية الأساسية للإنسان), وعلى معنى العدل الاجتماعى على كل المستويات. ويمثل توازن المصالح ترجمة خلاقة لمعنى العدل في العلاقات بين الشعوب والدول. وعندما تبرز هذه المعاني بوضوح في الفكر والممارسة تنتصر فكرة الشرق الأوسط الإسلامي.