حسب رأيي الشخصي فإنه حان للأميركيين أن يضيفوا مقياساً جديداً لسعادتهم، إلى جانب مقياس الناتج الإجمالي المحلي GDP المعمول به حالياً. وإن كان هناك من بيننا من يتساءل عن ضرورة إضافة معدل آخر لقياس سعادتنا كأمة، فإنه من الأجدر بنا أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال الاستباقي أولاً: ما الذي تعنيه هذه الأشياء مجتمعة: الحرب على العراق، مبيعات السجائر، والحرائق الأخيرة التي شهدتها ولاية كاليفورنيا؟ والإجابة؛ أنها تسهم جميعاً في زيادة إجمالي ناتجنا المحلي، مما يعني أنها ظواهر "جيدة" وحميدة بالتساوي. ذلك أن إجمالي الناتج المحلي، هو مجموع البضائع والسلع والخدمات التي تنتجها أمة ما، في فترة محددة من الزمن. بمعنى آخر فإن إجمالي الناتج المحلي، إنما يعنى بقياس حجم "الفطيرة الاقتصادية" لبلد ما، ولا يهمه في شيء قياسها من حيث النوعية. فهو ليس معنياً بمكوناتها، وما إذا كان قد استخدم فيها تفاح طازج أم بيض فاسد، طالما أن كليهما يحسبان على أساس التساوي والتكافؤ، من حيث مساهمتهما في الحجم في نهاية الأمر. ولكي نعبر عن هذا المعنى بطريقة أخرى، لنقل إن بيع بندقية قاتلة، وكذلك بيع قرص مضاد حيوي منقذ للحياة، هما سيان طالما أنهما يسهمان بالقدر ذاته، في حجم الناتج الإجمالي المحلي، على افتراض تساوي سعر البندقية والقرص الدوائي. وكما قال روبرت كنيدي من قبل، "فإن إجمالي الناتج المحلي، لا يقيس جمال شعرنا وأدبنا، ولا قوة زيجاتنا، ولا ذكاء حوارنا القومي". ثم يستنتج كنيدي بناءً عليه "أن إجمالي الناتج المحلي، يقيس كل شيء تقريباً، عدا ما يجعل حياتنا ذات قيمة ومعنى". ورغم ذلك، فها أنت ترانا نعبد هذا المقياس المادي ربع السنوي لإنتاجنا، وكأن ما عداه ليس له أدنى قيمة ولا أهمية! فإذا ما كان إجمالي ناتجنا المحلي مرتفعاً، فيا لها من فرحة وسعادة، أما إذا كان منخفضاً، فيا لشق الجيوب ولطم الخدود. ذلك أن ارتفاع هذا الناتج في الوقت المحدد من العام، إنما يعني أن اقتصادنا يمضي على أحسن ما يكون، مما يعني سعادتنا ضمناً. وعلى عكس ذلك تماماً، فإن انخفاضه لا يشير إلى شيء سوى تراجع أدائنا الاقتصادي، وبالتالي إلى حزننا ومعاناتنا. وربما يختلف من يختلف أو يتفق من يتفق مع هذا المنظور المالي الاقتصادي للسعادة. على أن دراسة متخصصة أجريت مؤخراً عن السعادة، أظهرت أنه لا سبيل لأي ارتباط وهمي بين السعادة ومعدل النمو الاقتصادي، طالما تبين حدوث انخفاض مريع في دخل الكثير من المواطنين الأميركيين، وصل في بعض الأحيان إلى ما لا يتجاوز الـ15 ألف دولار سنوياً. والشاهد أن الأميركيين بوجه عام، هم أكثر ثراءً مما كانوا عليه قبل نصف قرن مضى، إلا أنهم ليسوا أكثر سعادة بأية حال. وينطبق الأمر نفسه على شعوب دول صناعية متقدمة أخرى كاليابان وغيرها. ومع ذلك فإننا نصر على قياس النمو الاقتصادي وخير الإنسان وسعادته، كما لو كانا شيئاً واحداً ومطابقاً! ونستثني من هذا الاتجاه، شعباً واحداً صغيراً في جبال الهملايا، هو شعب بوتان الذي استحدث مقياساً جديداً كل الجدة، أطلق عليه تسمية "إجمالي السعادة القومية". وأرجو ألا يحسب البعض أني أمزح هنا، بل هي حقيقة، مع العلم أن هذا الشعب الجبلي ليس محروماً من نعمة الأوكسجين. فقد استحدثت بوتان- الواقعة ما بين الهند والصين- لنفسها نهجاً جديداً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، شبيهاً بما جاء في تراث "إي. إف. شوماخر"، المفكر الاقتصادي الراحل، الذي كان يتعامل مع الاقتصاد بدالة البشر ووجودهم في الأساس. ورغم سعي دول وشعوب أخرى لتبني بدائل مختلفة لقياس معدل النمو الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنها لم تتفوق على بوتان من حيث تبنيها لسياسة السعادة الاجتماعية صراحة. فمن رأي وزير داخليتها جيجمي واي. تنيلي، أن مقاييس النمو الاقتصادي التقليدية، ليست سوى مقاييس إيهامية تضليلية لا أكثر. ولذلك فقد لجأ مسؤولو بوتان إلى تبني مقاييس ومعايير أخرى، تبدأ بمساءلة ما إذا كان النمو الاقتصادي يسهم فعلياً في رفع معدلات السعادة القومية أم لا؟ ثم إن شعب بوتان ليس قريباً بأية حال، من أي فكر اشتراكي يسعى إلى إنزال الفردوس وتحقيقه على الأرض، كما قد يعتقد البعض. فالبوتانيون يتطلعون إلى تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الشعوب والدول، بما فيها تطلعهم للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. لكن وبما أنهم ملتزمون أشد الالتزام بجعل ذلك النمو مستداماً، فإنه ليس من المفيد دائماً بالنسبة لهم، اتخاذ القرارات من الزاوية الاقتصادية وحدها. وللتدليل على هذا، فقد ضحت بوتان بملايين الدولارات التي كان يمكن أن تنهمر على خزانتها العامة، جراء التدفق السياحي على جبالها ومناظرها الطبيعية الساحرة الخلابة، لولا أنها اتخذت قراراً بتحديد عدد السياح الأجانب الذين يفدون إليها سنوياً، حرصاً منها على حماية طبيعتها واستدامة جمالها. فهل لنا ولغيرنا من الأمم والشعوب، في البوتانيين مثال نقتديه؟ إريك فاينر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤلف كتاب "جغرافيا السعادة"، تحت الطبع ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"