الوضع العراقي يتدهور بشكل يومي. يوم أمس فقط تم اختطاف 150 من وزارة التعليم في هجوم صاعق قامت به مجموعة ترتدي ملابس الشرطة. ليس مستغرباً والحال هذه أن الولايات المتحدة تتحدث عن تغيير سياستها في العراق. تحدث الإعلام الأميركي عن ذلك كثيراً طوال الأسبوعين الماضيين، انطلاقاً من تسريبات حول ما يمكن أن تتضمنه توصيات "جماعة دراسة العراق" برئاسة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر، وهزيمة حزب الرئيس بوش في انتخابات الكونجرس أمام "الحزب الديموقراطي"، ونجاح الأخير في استعادة السيطرة على الكونجرس. نتيجة الانتخابات عبرت عن رفض شعبي واسع لسياسة الإدارة في العراق، وإعطاء "الديموقرطيين" السيطرة على الكونجرس لا يترك مجالاً أمام الرئيس إلا تغيير سياسته هناك. لم تظهر مؤشرات رسمية واضحة من واشنطن حول طبيعة هذه التغيرات. لكن يمكن القول بأن الذي أعلن بشكل رسمي هذا التغير المرتقب هو رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، في خطابه السياسي السنوي مساء الاثنين الماضي. فرئيس الوزراء البريطاني هو أهم حلفاء بوش خارج الولايات المتحدة، وشريكه في الحرب وفي الاحتلال. ما الذي قاله بلير في هذا الخطاب المهم؟ أهم ما قاله هو نقطتان؛ الأولى الاعتراف بأن الذي فرض التغير المرتقب في السياسة الأميركية والبريطانية في العراق هما عناصر المقاومة العراقية، والإرهاب كذلك. والنقطة الثانية هو الاعتراف بأن سياسة الانفراد التي اتبعتها إدارة بوش حتى الآن أثبتت فشلها الذريع، خاصة فيما يتعلق بالعراق. الذي يقترحه بلير بشكل مباشر هو إستراتيجية يسميها بـ"إستراتيجية لكل الشرق الأوسط"، ويعني بذلك أن الوضع في العراق مرتبط بالقضايا الإقليمية الأخرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، ومرتبط أيضاً بمصالح وسياسات الدول المجاورة للعراق. كانت إدارة بوش تصر على رفض أي دور للدول المجاورة في إيجاد حل للوضع العراقي، بما في ذلك الدول الصديقة والحليفة. بعض هذه الدول، مثل السعودية ومصر، متهمة بأنها مصدر للإرهاب، وبالتالي فإنها يجب أن تبتعد عن المشهد العراقي. طبعاً لا شك في أن هذا الموقف مدعوم بمواقف مشابهة من قوى عراقية نافذة تحت الاحتلال، خاصة القوى الشيعية والكردية. كلا هذين التيارين يرفض أي دور عربي بتهمة أن الأنظمة العربية المجاورة هي دول سنية بالنسبة للشيعة، ستكون متعاطفة مع السنة، وليست محايدة. والدول المجاورة من ناحية أخرى هي دول ترفض فكرة استقلال كردستان بالنسبة للأكراد. من هنا التقت الرغبات الأميركية والعراقية على رفض أي دور لدول الجوار. كان الدور المطلوب من هذه الدول لا يتجاوز ضبط الحدود، وتقديم المعلومات عن العناصر الأجنبية التي تحاول دخول العراق بغرض مقاتلة الأميركيين. أي دور سياسي خارج هذا الإطار في الداخل العراقي للدول المجاورة كان مرفوضاً بشكل قطعي. الآن تغير الموقف، ومعه تغيرت السياسات، أو هكذا يبدو على الأقل. واللافت في هذا التغير هو الاعتراف بأهمية إشراك إيران وسوريا في جهود البحث عن حل. التركيز هنا هو على الدور الإيراني وليس على الدور السوري. المطلوب من السوريين بشكل أساسي هو فك تحالفهم مع إيران. لكن اللافت أيضاً هو غياب أي حديث عن دور الدول الصديقة للولايات المتحدة، وخاصة السعودية ومصر. هذا لا يعني أنه لن يكون لهما دور في السياسات الجديدة. لكن في هذا الإطار لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن هاتين الدولتين تركتا العراق للسياسة الأميركية، وأن ابتعادهما عن الوضع العراقي كان من أهم العوامل التي فاقمت من التدهور هناك. ابتعاد السعودية ومصر كان نتيجة للضغوط الأميركية. السؤال هنا: لماذا لم تنجح أي من هاتين الدولتين، وخاصة السعودية، في إقناع الإدارة الأميركية بخطأ سياستها؟ خاصة فيما يتعلق بالسماح بتفاقم النهج الطائفي في تركيبة الحكومة، والفيدرالية، وعزل الطائفة السنية، ومحاولة إضعافها؟ وأنه بسبب هذه السياسة خضع المشهد السياسي العراقي لحالة من عدم التوازن كان لا بد معه من انفجار الوضع الأمني بشكل خطير، قد لا يمكن معها تفادي تعمق الحرب الأهلية، وتحويلها إلى حرب معلنة وشاملة. لماذا تلتفت الإدارة الأميركية إلى إيران، وتعترف بدورها الآن بعد أن كانت تعتبرها ضمن "محور الشر"؟ إيران الآن هي ضمن محور دبلوماسية الحل. بل إن بلير في خطابه المذكور أشار إلى أن الدور الإيراني المخرب في العراق هو أحد العوامل التي فرضت التغيير الاستراتيجي الغربي في العراق. من ناحية أخرى، هناك تساهل بالنسبة لإيران كدولة مجاورة، لكن ليست دولة عربية. خطوط التدخل الإيراني مفتوحة سياسيا واستخباراتيا، وماليا، وعسكريا، وإن بشكل غير رسمي. القوة الشيعية الأكبر في العراق هي "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية"، وهذه منظمة أنشئت في طهران، ومن أهم حلفاء إيران. التحالف الشيعي الكردي في مواجهة السنة، ربما فرض على الأكراد التغاضي عن مدى التدخل الإيراني في العراق. وحيث أن الأكراد يتطلعون في نهاية الأمر نحو الانفصال والاستقلال عن العراق، فإن التدخل الإيراني في الأخير قد لا يعني الأكراد كثيراً في هذه المرحلة. ماذا عن الموقف الأميركي من التدخل الإيراني؟ الأميركيون هم أهم وأقوى حلفاء القوى الشيعية حالياً. هل يعرف الأميركيون مدى التدخل الإيراني؟ الحقيقة أن أحد الأسباب، وإن لم يكن أهمها، وراء الموقف الأميركي المعادي لإيران يفترض أنه السياسة الإيرانية في المنطقة، وتحديداً هنا تدخلاتها في العراق، وهي تدخلات كثيراً ما طالب الأميركيون بوقفها. هل يعني هذا أن سياسة الدول الصديقة لواشنطن تجاه العراق لم تساهم في تردي الوضع العراقي؟ الحقيقة أن سياسة هذه الدول، من حيث أنها تركت لواشنطن الحبل على الغارب، قد ساهمت من حيث لا تريد في مفاقمة المشكلة العراقية. وهذا يعني أن العامل الأول والأهم في تدهور الوضع هناك يعود للأميركيين. خطأ السياسة الأميركية ليس في الاعتماد على القوة، واستبعاد السياسة. هناك من يرى أن الأميركيين لم يستخدموا القوة بالشكل الكافي. لا يقل عن ذلك التخبط الأميركي في العراق. من ناحية هناك تحالف أميركي شيعي، مقابل صدام أميركي مع إيران (دولة شيعية) و"حزب الله" (حزب شيعي) في لبنان. وتحالف أميركي مع الأكراد، وحماية تطلعاتهم السياسية نحو الاستقلال مقابل تركيا حليف الأميركيين، وعضو حلف "الناتو"، والتي ترفض أي شيء قد يقود إلى دولة كردية. ليس واضحاً ماهو الهدف الذي من أجله تم احتلال هذا البلد؟ قيل الديموقراطية، وقيل النفط، وقيل القواعد العسكرية. الديموقراطية كانت شعاراً للتغطية. أما النفط والقواعد فهي أمور الآن مطروحة للمساومة، ومرتبط مصيرها بالمصير النهائي للعراق. أهم مرتكزات السياسة الأميركية في العراق حالياً (أو قبل التغيير المرتقب على الأقل) هي تلك التحالفات المتناقضة. أضف إليها الفجوة الكبيرة بين الأميركيين والسنة في العراق. بل عمل الأميركيون على إبعاد القوى السنية، أو أن تحالفهم مع الشيعة والأكراد فرض عليهم ذلك. مهما يكن ظل الأميركيون ولا يزالون في حالة صدام مع تلك القوى، وعملوا أو سمحوا بمحاولات إضعافها. في الوقت نفسه أهم أصدقاء الأميركيين وحلفائهم من بين الدول العربية هي الدول السنية، وتحديداً السعودية ومصر. هذا تخبط واضح. كيف سمحت الدول الصديقة لواشنطن أن تكون مرتهنة لمثل هذه السياسات؟ كان من الممكن لهذه الدول أن توظف صداقتها وتحالفها مع واشنطن لترشيد سياسات الأخيرة في المنطقة، وليس فقط في العراق. كان من الممكن إقناع إدارة بوش بالترابط بين الوضع في العراق والوضع في فلسطين، وأن الوضع في لبنان مرتبط بهما. الإدارة تتصرف في العراق وفي لبنان على أنهما وضعان منفصلان. تركت مصر الوضع في فلسطين يتفاقم، وتركت لإسرائيل حرية الحركة والتدمير من دون أن توفر أدنى حد من الحماية للفلسطينيين، وبالتالي فقدت التأثير على كل الأطراف الفلسطينية، وخاصة "حماس". في الوقت نفسه لا تملك أي تأثير في السياسة الإسرائيلية. السعودية تركت الوضع في العراق للأميركيين، ولم تحاول أن تضيف شيئاً من التوازن في المشهد السياسي هناك. الآن يأتي رئيس الوزراء البريطاني، بلير، ليقر بالترابط في خطابه الأخير، ويدعو إلى ما أسماه بـ"إستراتيجية لكل الشرق الأوسط". ولم يفت بلير التأكيد على أن البداية يجب أن تكون في فلسطين. هو يرى أن الدور الإيراني مهم في هذه الإستراتيجية. رغم الشروط المرفقة يبقى أن باب التفاوض مع إيران أصبح مفتوحاً. هل يمثل ما قاله بلير بداية متأخرة؟ التغيير المرتقب في واشنطن ولندن اعتراف بفشل سياساتهما. وبما أن قوى المقاومة والتمرد هي التي فرضت هذا التغير، فإنه سيشجعها على المضي أكثر لتحقيق أكبر قدر من التنازلات. التغيير يعني أيضاً فشل سياسة الأصدقاء الإقليميين، ومن ثم يفرض سؤالاً آخر: هل التغيير المرتقب في لندن وواشنطن مؤشر آخر على تراجع الدور العربي، وبداية الدور الإيراني في المنطقة؟ * سأعود لاحقاً إلى موضوع الدولة السعودية.