يشتكي المفكر "الليبرالي" الأميركي "تشومسكي" في كتابه المعنون بـ"دول فاشلة"، الصادر في العام الحالي، من وصول شعور المواطن الأميركي بالضعف وبعدم القدرة على التأثير على مخرجات النظام السياسي الأميركي إلى مستويات مقلقة. وسبب ذلك هو تحول الدولة الأميركية إلى أداة في أيدي أصحاب المال والشركات والأثرياء لتحقيق مصالحهم على حساب إخضاع وتقييد مصالح الفئات الفقيرة والأقل نفوذاً، كالفقراء والنساء والشباب والأقليات. ويرى "تشومسكي" أن استخدام الدولة كأداة في يد النخب القوية لتحقيق مصالحها وحمايتها من الأغلبية الفقيرة، ليس أمراً جديداً، ولكنه أمر تم إحياؤه في ستينيات القرن الماضي، حينما شعرت النخب الأميركية بمرور أميركا بحالة "إفراط ديمقراطي"، أدت إلى صعود فئات "سلبية ومهمَّشة اعتيادياً" مثل "النساء والشباب وكبار السن والعمال والأقليات". ولعلاج أزمة "الإفراط الديمقراطي"، اتخذت النخب الثرية عدداً من الإجراءات الفورية مثل زيادة أنشطة اللوبي والضغط السياسي نيابة عن الشركات ورجال الأعمال والأثرياء، وزيادة الدعم المالي لمراكز الأبحاث "اليمينية"، والتحالف مع الجماعات الجماهيرية المتدينة، والتي سيطرت تدريجياً على القواعد الجماهيرية للحزب "الجمهوري". ويقول "تشومسكي" إن التحركات السابقة، تمكنت تدريجياً من إجهاض ثمار ثورة الحقوق والحريات، وعلى رأسها تقليل الفجوة بين الأثرياء والأغنياء. وقاد ذلك إلى شبه الانفصال بين مطالب غالبية الشعب الأميركي وقضاياهم الحقيقية والأجندة السياسية السائدة بواشنطن لدى الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي" على حد سواء، وهنا يشير "تشومسكي" مستعيناً باستطلاعات مختلفة إلى أن أغلبية الشعب الأميركي، تفضل خفض ميزانية الدفاع الأميركية وزيادة الإنفاق على برامج التعليم والرعاية الصحية ورعاية الفقراء، وهي قضايا تعجز نخب الحزبيين الأميركيين الرئيسيين عن حسمها بشكل قاطع، يعكس إجماع الشعب الأميركي تجاهها. ومع استمرار هذه الظاهرة، يؤكد "تشومسكي" على أن المواطن الأميركي بات قليل الاهتمام بالانتخابات الأميركية وبمواقف المرشحين الحقيقية خاصة في ظل حالة التسطيح، التي تدار بها الحملات الانتخابية الأميركية. في ظل أطروحات "تشومسكي" السابقة المهمة جرت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الذي فاز فيها "الديمقراطيون". ويدفعنا ذلك إلى تناول الدور الذي لعبه المال في انتخابات العام الحالي بحكم أن قضية تأثير المال على الانتخابات تعد اختباراً حقيقياً لمدى نفوذ المواطن الأميركي العادي على مسار العملية الانتخابية. وبهذا الخصوص تشير أحدث إحصاءات مركز "سنتر فور بابليك إنتجريتي" -وهو مركز أبحاث أميركي مستقل معني بتتبع تأثير المال والتبرعات السياسية على سير العملية الانتخابية الأميركية- إلى أن حجم التبرعات التي جمعها المرشحون السياسيون المتنافسون على الفوز في انتخابات التجديد النصفي الحالية، تقدر بحوالى 2.6 مليار دولار مقارنة بـ2.2 مليار دولار هي تكلفة انتخابات عام 2002 النصفية، وهو ما يعادل زيادة قدرها 18%، وهو أيضاً أمر يشير إلى الارتفاع المستمر في تكلفة انتخابات الكونجرس، واعتماد المرشحين المستمر على المال، وهو اعتماد يقفز لمستويات عالية في مواسم الانتخابات الرئاسية بسبب ارتفاع تكاليف حملات الرئاسة الأميركية ذاتها، ففي عام 2004، وصلت تكاليف الانتخابات الفيدرالية إلى 4.2 مليار دولار أميركي. وتشير إحصاءات المركز السابق إلى أن كل مرشح في انتخابات مجلس "النواب"، جمع في المتوسط حوالى 800 ألف دولار أميركي استعداداً للانتخابات التي جرت الأسبوع الماضي، في حين جمع كل مرشح بانتخابات مجلس "الشيوخ" 4.9 مليون دولار أميركي في المتوسط، وهي من دون شك كميات كبيرة من تبرعات كثيرة تزيد في حالة كون المرشح من أعضاء الكونجرس الحاليين حيث جمع كل عضو من أعضاء مجلس "النواب" الذين نافسوا في الانتخابات الحالية تبرعات تقدر 1.1 مليون دولار في المتوسط. أما أعضاء مجلس "الشيوخ" -الذين خاضوا الانتخابات النصفية الأخيرة- فوصل نصيبهم من التبرعات إلى 10 ملايين دولار أميركي. وتشير الإحصاءات السابقة إلى أن أعضاء الكونجرس الحاليين أكثر قدرة على جمع التبرعات مقارنة بمنافسيهم الجدد، وأن جماعات الضغط تفضل مساندة أعضاء الكونجرس الحاليين وبناء علاقات بعيدة المدى معهم، مما يؤدى إلى إضعاف شديد لحالة الحراك السياسي الأميركي، فوصول سياسي ما للكونجرس الأميركي، يضمن له الحصول على دعم "شركات اللوبي" والعلاقات العامة والمتبرعين الأثرياء، بما يضمن له الاستمرار لسنوات عديدة في الكونجرس. وفيما يتعلق بمصدر التبرعات، تشير الإحصاءات إلى أن عدد من يتبرعون بمبلغ 200 دولار أو أكثر في الانتخابات -وهو مبلغ ضئيل جداً، يمثل الحد الأدنى للتبرعات السياسية الواجب تسجيلها قانونياً- هي 620 ألف مواطن أميركي أو ما يعادل 0.21% من المواطنين الأميركيين فقط، وهذا يعني أن العملية الانتخابية بالولايات المتحدة، تعتمد على تبرعات أقل من ربع الواحد من المئة من المواطنين الأميركيين، أما الغالبية العظمي من الشعب الأميركي ونسبتها 99.75% فتأثيرها المالي على الانتخابات محدود للغاية ويكاد يكون منعدماً. أما أهم المصادر الجغرافية للتبرعات السياسية، فهي مراكز المال والاقتصاد بنيويورك، وتجمعات "اللوبي" والمصالح بالعاصمة الأميركية واشنطن، وهما معاً يشكلان أهم عشرة أرقام بريدية على مستوى الولايات المتحدة من حيث حجم التبرعات السياسية التي ترد منها. المشكلة هنا أن مشكلة عدم المساواة التي تعاني منها الديمقراطية الأميركية، تتخطى قضية المال وحدها ودورها في التأثير على الانتخابات، فهي قضية متشعبة ذات جذور متشعبة، وهنا يجب الإشارة إلى نتائج تقرير صدر في عام 2004 عن لجنة عمل شكلتها "الجمعية الأميركية للعلوم السياسية "في عام 2001 لدراسة ظاهرة "عدم المساواة والديمقراطية الأميركية"، وقد خرجت اللجنة في عام 2004 بتقرير يسعى لتقييم حالة الديمقراطية الأميركية في أوائل القرن العشرين وأهم التحديات التي تواجهها، وعلى رأسها ما يلي: - أن الشعب الأميركي أكثر قبولاً بعدم المساواة بسبب إيمانه القوي بالثقافة الرأسمالية، التي تنادي بوجود فوارق طبيعية بين الأفراد تقود إلى تفاوت في الثروات، ولكن الشعب الأميركي يرفض عدم المساواة الناجمة عن التمييز. - الفجوة المتزايدة بين الفقراء والأغنياء في أميركا، تنعكس بشكل واضح على مظاهر المشاركة السياسية وعلى رأسها التصويت في الانتخابات، حيث تقتصر نسبة المشاركة في انتخابات الكونجرس على ثلث الناخبين المسجلين في قوائم الاقتراع الأميركية، وهي نسبة ترتفع في انتخابات الرئاسة الأميركية إلى نصف الناخبين المسجلين فقط. - الفجوة في مستويات المشاركة السياسية بين الأغنياء والفقراء في أميركا في ازدياد منذ الستينيات، وهي فجوة يصعب علاجها من خلال انتشار أدوات الاتصال الحديثة كالإنترنت، والتي أصبحت أداة في يد الأثرياء النشطين سياسياً لكي يزدادوا نشاطاً ونفوذاً مقارنة بالفقراء غير النشطين. - تراجعت عضوية اتحادات العمال إلى 9% فقط من إجمالي القوى العاملة بأميركا، وفي المقابل انتشرت جماعات المصالح التي تمثل الأغنياء بشكل رهيب، وحتى جماعات المصالح التي تمثل القضايا العامة كالبيئة، تزداد عزلة عن قضايا الجماهير العادية، كلما ازدادت انخراطاً ونفوذاً سياسياً. - الأحزاب السياسية الأميركية الكبرى تركز في نشاطها السياسي والانتخابي على الوصول إلى الأثرياء والحصول على دعمهم، ولا تشغل نفسها كثيراً بالوصول إلى الفقراء وتنشيطهم. - نتيجة لما سبق لا يسمع المسؤولون الأميركيون أصوات المهاجرين والأقليات والفقراء، لأنهم محاطون بالأثرياء الذين يدعمونهم ويمتلكون جماعات مصالح عالية الصوت. وهذا يعني أن الشعب الأميركي والديمقراطية الأميركية ومستقبل الولايات المتحدة في حاجة إلى وقفة أكبر مع الذات، وقفة لمراجعة حالة الديمقراطية الأميركية وإيجاد حلول عاجلة لأزمة الطبقات الفقيرة والمتوسطة ومخاطبة برامجها بجدية وبشكل يشعرها بالثقة في النظام السياسي الأميركي ويشجعها على المشاركة الواعية النشطة من جديد. علاء بيومي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باحث في مجلس العلاقات الإسلامية- الأميركية "كير"