لم يكن مشهد جون بولتون رافعاً يده بـ "الفيتو" الأميركي حدثاً فريداً من نوعه، وإنما كان فصلاً آخر في سياسة فقدت قلبها وعقلها. لا إدانة لمجزرة "بيت حانون"، إذاً مباركة لهذه المجزرة، ولكل ما سبقها في فلسطين ولبنان، وما قد يتبعها. كان القصف مُتعمداً ومبرمجاً، تنفيذاً لخطة معلنة منذ ما سمي الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. وكان الحدث يستهدف التفظيع والإيلام، متزامناً مع الانتخابات الأميركية التي سيطرت على اهتمامات الإعلام وأضوائه. إنه القتل لمجرد القتل، فالإسرائيليون باتوا يعرفون أنه لا جدوى من كل هذه الجرائم، لكنهم يواصلون ارتكابها بحثاً عن انتصار ما، حتى لو لم يثمر أي نتيجة. وبين إرهاب القصف الإسرائيلي وإجرام "الفيتو" الأميركي، تظهر معالم صناعة العنف والتطرف. فحين يعجز القانون الدولي يتعزز قانون الغاب، وحين يسمى الاعتداء على المدنيين الآمنين وهم نيام "دفاعاً عن النفس"، لابد أن دم الضحايا سيُذكي المقاومة ويحفزها على الرد، لئلا تكون الكلمة الأخيرة لقوة الاحتلال. لم يشأ الأميركيون أن يفطنوا إلى مشاعر البشر المفجوعين، بل تجاهلوا جريمة حلفائهم الإسرائيليين حين أطلقوا النار على جموع النسوة، فالعقل الذي زيَّن للإدارة الأميركية أن تذهب للغرق في أوحال العراق، هو نفسه الذي يدعم سياسة البطش في فلسطين، والذي دافع عن التدمير والتقتيل في لبنان. الأكيد أن الناخبين الأميركيين الذين عاقبوا إدارة جورج بوش صوتوا ضد الورطة في العراق، ولم يصوتوا لمصلحة العراقيين. لكن ثمة إدانة واضحة في هذا الاقتراع لكل المفاهيم والأخطاء التي أنتجتها الحرب. وليس هناك ما يشير إلى أن الإدارة ستترجم رسالة الناخبين في طيات سياساتها الشرق أوسطية، لأنها إذا فعلت حقاً، فإن ذلك سينعكس على الوضع الفلسطيني كما على الوضع العراقي، واستطراداً اللبناني. فالأمراض التي تعانيها السياسة الأميركية هي مشتركة مع تلك التي يعانيها العقل الإسرائيلي ليس في تعامله مع الفلسطينيين، فحسب وإنما في رؤيته للعلاقة مع المنطقة كلها. كان "الفيتو" الأميركي الجديد مؤشراً إضافياً إلا أن واشنطن لم تتعلَّم، ولا تريد أن تتعلَّم شيئاً من تجربتها السوداء المستمرة في الشرق الأوسط والخليج، وحيث كان يمكن لواشنطن أن تحافظ على شيء من الأخلاقية، وهي أضعف الإيمان، فضّلت أن تساند القوة الغاشمة. أما المغزى الأخطر لهذا النهج، فهو أن الضعف الذي انتاب الإدارة سيؤثر في عملها طوال السنتين المتبقيتين للرئيس بوش. إذ أنه سيرجّح العناد في السياسات الرعناء تجنباً لخسارة كل شيء، ولو أنه غير متيقن من كسب أي شيء. لعل أفضل ما يمكن لـ"الديمقراطيين" المنتصرين في الانتخابات أن يحققوه هو مراجعة الخطط التي فرضتها "الحرب على الإرهاب"، وفي حال فلسطين، فإن أقل المطلوب أن يستعاد النظر إلى هذه القضية كنزاع سببه الاحتلال الإسرائيلي لا كظاهرة من ظواهر الإرهاب ومواجهته. لقد استغلت إسرائيل هذه الحرب إلى أقصى حد، وتمكنت من تزوير المفاهيم التي قامت عليها القضية الفلسطينية، وحان الوقت للخروج من هذا الزيف الدموي. وكما استحق الوضع العراقي "لجنة بيكر" لتحديد إجراءات البحث عن استقرار ما، لتبرير الانسحاب الأميركي، فإن الوضع الفلسطيني يستلزم مثل هذه اللجنة لإنهاء المصادرة الإسرائيلية المتمادية للسياسة الأميركية.