لقد واتت دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الذي سيخلي منصبه قريباً، الفرصة لكي يصبح أحد أهم أبطال أميركا على امتداد العصور. فقد تولى منصباً حساساً ومهماً، في أكثر حقب التاريخ صعوبة واضطراباً، فضلاً عن أن له من القدرات المهنية، ما كان من شأنه أن يعينه على النجاح في مهمته. غير أنه ومثل غيره من بقية "الأبطال التراجيديين"، فقد أفلتت من بين يديه كل النعم والمزايا التي حظي بها وتحولت إلى نقمة، بسبب تعنته وتشدده، فهوى مجده، وأسدل الستار نهائياً على مشهد بطولته. وبالنظر إليه من عدة زوايا وجوانب، فقد كان رامسفيلد أهلاً وكفؤاً لتولي مهام وزارة الدفاع في مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر. ذلك أن خبرته السابقة في المنصب نفسه، في عهد إدارة الرئيس الأسبق فورد، ثم عمله سفيراً لأميركا في حلف "الناتو"، قد أهلاه لتولي مهمة بناء تحالف عسكري قوي في زمن عصيب، مثل ذلك الذي أعقب شن الهجمات الإرهابية على بلادنا. وليس ذلك فحسب، بل إن شدة بأسه وعزمه وثقته العالية في نفسه، تعد جميعها مزايا لا غنى عنها لوزير دفاع في زمن الحرب، بل هي مزايا استثنائية في زماننا هذا. ولكل ذلك فقد ووجه حديثه المبكر في الأيام الأولى لتسلمه منصبه، عن اعتزامه وضع حد للبيروقراطية المتفشية في وزارته، بترحيب حار من قبل الكثير من المراقبين. ورأى بعضهم أن رامسفيلد هو نمط الشخصية المطلوبة لتولي القيادة العسكرية الأميركية في زمن الأزمات. والآن ما أن بدأ "روبرت غيتس"، المدير السابق لوكالة "سي آي إيه" الاستعداد لخلافة رامسفيلد في المنصب، حتى ارتفعت أصوات المراقبين، مطالبة بضرورة أن يكون أكثر انفتاحاً على آراء ومشورة زملائه العسكريين، وأن يكرس جهوده لبناء إجماع عسكري، بدلاً من أن يصبح طاغية آخر في هرم القيادة العسكرية. غير أن الذي لم يتضح بعد هو كيف لانفتاح "روبرت غيتس" أن يثمر ويؤتي أكله، آخذين في الاعتبار كثرة النصائح التي كان قد وجهها العسكريون إلى سلفه رامسفيلد؟ وكان الاعتقاد في استراتيجية التعويل على القدرة التكنولوجية وخفة العمليات العسكرية وسرعتها، قد ساد كافة أوساط القيادة العسكرية العليا الأميركية طوال عقد التسعينيات. وقتها كان رئيس أركان الحرب، الجنرال "إريك شينسكي"، قد أطلق خطة طموحة ترمي إلى "تخفيف" الجيش، وتزويده بأحدث الأجهزة والمعدات الحربية الدقيقة في إصابة أهدافها. غير أن "شينسكي" نفسه، كان في مقدمة الجنرالات الذين نبَّهوا إلى ضرورة وجود قوة عسكرية كافية على الأرض، لتأمين العراق في المرحلة التالية لنهاية العمليات الحربية الرئيسية. إلا أن زميله الجنرال تومي فرانكس –وهو المسؤول المباشر عن وضع خطة حرب العراق وتنفيذها- أراد لقواته في العراق أن تكون "خفيفة" أي محدودة وصغيرة العدد. على أن الكثيرين من الضباط عارضوا نهج "الخفة" الحربية الذي تمسك به رامسفيلد، في مواجهة موجة التمرد التي كانت نيرانها قد اشتعلت للتو في العراق. ويستثنى من هؤلاء الضباط المعارضين، الجنرال جون أبوزيد، الذي تولى مهام القيادة العسكرية بعد تومي فرانكس، على إثر انتهاء العمليات الرئيسية هناك. ومهما يكن فإن تلك الاستراتيجية التي أفضت إلى الكارثة في العراق، إنما يتحمل وزرها الجنرالات والقادة العسكريون، على قدم المساواة مع وزير الدفاع. ولذلك فإن تحويله إلى "كبش فداء" وحيد لتلك الكارثة، إنما يحول بيننا وبين استخلاص أهم دروس إخفاقاتنا الأخيرة. أما فيما يتصل برامسفيلد، فإن معضلته لا تكمن في عطب أسلوبه الإداري، بقدر ما تكمن في عطب فهمه للحرب نفسها. فقد وقع منذ وقت مبكر من تولي مهامه في الوزارة، أسير فكرة سيطرت عليه، ألا وهي رغبته في تحويل بنية الجيش الأميركي، والسير به على خطى أحدث النظريات الحربية التي أنتجها عقد التسعينيات، ومن ثم تأهيله لمواجهة التحديات المستقبلية. يشار هنا إلى أن الرئيس بوش، كان أول من نادى بالبرنامج ذاته، منذ أن كان مرشحاً رئاسياً في عام 1999، أي قبل أن يخطر على بال أحد، أن يتولى رامسفيلد مهام وزارة الدفاع في ظل الإدارة الحالية. ويمكن إيجاز ذلك البرنامج في دعوته للاعتماد على تكنولوجيا المعلومات المتقدمة، لتمكين الجيش من التحديد الدقيق للأهداف ورصدها ومتابعتها وإصابتها على بعد آلاف الأميال منها على الأرض. وبالطبع فإن القوة العسكرية المطلوبة لتنفيذ هذه المهام، لابد من أن تكون صغيرة العدد، متفرقة وسريعة الحركة، وألا تضطر لخوض المعارك المباشرة مع العدو، إلا حين تقتضي الضرورة ذلك. وقد سادت هذه النظرية مؤسستنا العسكرية على امتداد عقد التسعينيات كله، وضربت جذورها الثقافية عميقاً في تربتها. غير أن الذي يجب قوله هنا، إن هذا "البرنامج التحويلي" المزعوم، ليس برنامجاً للحرب على الإطلاق. فالحرب لا تعني شيئاً آخر سوى استخدام القوة لتحقيق هدف سياسي ما، وتشن ضد عدو يفكر، وتتضمن مشاركة العنصر البشري فيها. والحقيقة أنه يستحيل تحقيق الأهداف السياسية، بمجرد تدمير الأهداف العسكرية للعدو. ومن أسف أن رامسفيلد قد ولع أيما ولع بهذه العقيدة، وأراد لها أن تكون إرثاً خالداً له في تاريخنا الحربي. ومن هنا فقد أخفق في تحقيق الأهداف السياسية لحربنا على العراق، من باب تدميره للبنية العسكرية العراقية وحدها، وبما ألحقه من دمار هائل ببنية المجتمع المدني أيضاً. وليس ذلك فحسب، بل طال هذا الدمار بنية الجيش الأميركي نفسه، لكون الحرب على العراق، قد استنزفت الموارد العسكرية الشحيحة، التي رصدت أصلاً لبرنامج "التحويل الحربي" لجيشنا. وبذلك فقد تضاعفت خيبة رامسفيلد لتصبح خيبتين، إحداهما في العراق، والأخرى هنا في أميركا. فدريدريك دبليو. كاجان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باحث مقيم بمعهد "أميركان إنتربرايز" بواشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"