لم تكن نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس الأميركي التي جرت الأسبوع الماضي هزيمة للسياسة الأميركية في العراق وحدها، ولكنها كانت القشة التي قصمت ظهر المشروع الأميركي لقيادة العالم كما تراه الإدارة الأميركية الراهنة، فالدور القيادي الأميركي العالمي ليس موضع شك تظاهِره عناصر قوة مادية لا مثيل لها في دولة أخرى، لكن توظيف النخبة الأميركية الحاكمة في البيت الأبيض منذ عام 2001 لهذه العناصر استند إلى تصور للقيادة الأميركية للعالم يقوم على الهيمنة الأحادية التي لا تبالي بالحلفاء والأصدقاء الذين يرفضون السير في ركابها، وتستخف بالقوى الإقليمية المستهدفة من "المشروع الأميركي"، ولا تتردد في استخدام القوة العسكرية بغض النظر عما تحدثه من دمار هائل للبشر والحضارة، ولا يوقفها عجزها عن الحصول على ما يسبغ عليها ما يسمى بالشرعية الدولية، ولا تتورع عن الكذب وتلفيق الحجج لتبرير كل ما تفعله أو عن محاولة إلباس هذا كله ثوب السعي من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا هو باختصار وإيجاز شديدين ما هُزم في غمار انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأميركي. ويخطئ من يتصور أن الفشل الأميركي في العراق وحده الذي أقام الحجة على هذا المشروع. فجنباً إلى جنب مع هذا الفشل ثمة مأزق للسياسة الأميركية في أفغانستان التي تتصاعد فيها خسائر الولايات المتحدة وحلفائها على نحو ما نرى، وهزيمة محققة للانتهازية السياسية الأميركية إبان العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان حين ظنت أن إعطاء فسحة من الوقت لهذا العدوان الهمجي من شأنه أن يقيم أركان مشروعها لشرق أوسط جديد فإذا بهذا المشروع يلقى حتفه على يد حفنة من أبناء هذه الأمة اختاروا بديل المقاومة، وبعيداً عن هذا كله في الجانب الغربي من الكرة الأرضية يعاد تشكيل الخريطة السياسية في أميركا اللاتينية لتصبح تدريجياً خريطة معادية للمشروع الأميركي أو على الأقل مستقلة عنه، وآخر تجليات عملية إعادة التشكيل هذه فوز دانييل أورتيجا زعيم جبهة الساندنيستا بالانتخابات الرئاسية في نيكاراجوا منذ أيام قلائل. لكن الجبهة العراقية المناوئة للمشروع القيادي الأميركي التعيس الذي تتبناه النخبة الحاكمة في البيت الأبيض ربما تميزت عن غيرها بأنها الوحيدة التي أقامت صلة عضوية بين قضية مهمة من قضايا السياسة الخارجية والداخل الأميركي، فقد كانت الخسائر البشرية الأميركية المتصاعدة على أرض العراق بالإضافة إلى الخسائر المادية بطبيعة الحال عاملاً رئيسياً دون شك في اهتمام المواطن الأميركي –الذي لا يهتم عادة بقضايا السياسة الخارجية- بما يجري في العراق، ثم في فقدانه الثقة في أداء رئيسه وإدارته على نحو ما أظهرته الاستطلاعات المتتالية للرأي العام الأميركي، ولاشك أن بوش ورفاقه كانوا يدركون هذا كله وخطره على الانتخابات النصفية للكونجرس وإن أعوزتهم الحيل أو أقعدهم فقدان القدرة على الإبداع، فلم تجُد عليهم قريحتهم إلا بمحاولة الاستغلال الرخيص لورقة ليس بمقدورها أن تعالج ما أفسدوه، وذلك بتوقيت إصدار حكم الإعدام على صدام حسين بحيث يأتي قبيل الانتخابات مباشرة، لكن نتائج هذه الانتخابات أكدت دون أدنى شك أن معضلة المشروع الأميركي الذي تتبناه النخبة الأميركية الحاكمة أعقد بكثير من أن تحلها مثل هذه الحركات الصبيانية. ومع أن العراق أو بالتحديد المقاومة العراقية هي صاحبة الفضل في هذا التطور الفاصل في الساحة السياسية الأميركية، فإن العراق لن يستفيد في المدى القصير من هذا الإنجاز التاريخي الذي شارك أبناؤه في صنعه بدور فاعل ورئيسي، فليس من المتصور أن الرئيس الأميركي سيقلب سياسته رأساً على عقب بين يوم وليلة لمجرد أن حزبه فقد السيطرة على الكونجرس بمجلسيه. ذلك أنه إن فعل وقع بنفسه على شهادة وفاة حزبه في الانتخابات الرئاسية القادمة، لأن معنى التغيير الجذري دون تحقيق أدنى مؤشرات النصر السياسي أو حتى العسكري أن بوش ورفاقه كانوا يتبعون سياسة بلهاء حمقاء ومن ثم بلا رؤية أو هدف استراتيجي واضح لم يوقفهم عن اتباعها سوى صحوة الناخب الأميركي في الانتخابات الأخيرة، وقد كان بوش صريحاً على أية حال حين قال بعد أن اتضحت نتائج الانتخابات إن الهزيمة لا تعني الانسحاب السريع، وأضاف "سيقول العدو: حسناً. لابد أن هذا يعني أن أميركا ستنسحب. والإجابة هي لا"، وأكد أنه ما زال ملتزماً بتحقيق النصر وأن المعركة صعبة "وسنفوز فيها". ومن المؤكد أن بوش لن يفوز بأي شيء بعد الآن، لكن حديثه عن أن أميركا لن تنسحب من العراق لمجرد الهزيمة في الانتخابات النصفية للكونجرس حديث واقعي وصحيح للاعتبار السياسي الذي سبقت الإشارة إليه، وحقيقة الأمر أن هذا الموقف يمثل بحد ذاته معضلة يواجهها كثير من السياسيين الذي يورطون أوطانهم في مغامرات فاشلة: أن تدرك أنه ليس بمقدورك أن تحقق أهدافك، ومع ذلك فإن تراجعك مستحيل. يعزز استحالة التغيير الجذري في السياسة الأميركية تجاه العراق في المدى القصير أن الديمقراطيين المسيطرين الآن على مجلسي الكونجرس اكتفوا بالمعـــــارضة دون تقديم بدائل محددة للخروج من المأزق الراهن، ولعل هذا هو السبب في أن الأنظار مركزة الآن على التوصيات المرتقبة للجنة المشكلة برئاسة جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق بغرض دراسة بدائل للسياسة الأميركية الراهنة في العراق. والواقع أن البديلين المتطرفين مستحيلان: الانسحاب السريع لمهانته ومأساويته وخسائره المتوقعة سياسياً ومادياً وبشرياً، وزيادة عدد القوات الأميركية في العراق إلى حوالي نصف مليون جندي بما يجعلها قادرة على ضبطه، لتعارضه مع التوجهات التي أكدت الانتخابات الأخيرة أنها غالبة في أوساط الرأي العام الأميركي، ولأنه غير مضمون الفاعلية طالما أنه لا يعالج جذور المشاكل، وقد تكون نتيجته الوحيدة هي زيادة الخسائر الأميركية. وبما أن الأمر كذلك فإن البديل الأوسط يبدو مرجحاً: جدول زمني لانسحاب تدريجي يرتبط بتطور إيجابي في الوضع الداخلي في العراق قد يتضمن إشراك فصائل المقاومة المسلحة في الترتيبات السياسية المرتقبة، وكذلك دولتي الجوار اللتين ناصبتهما الإدارة الأميركية العداء كثيراً واتهمتهما بالتدخل في الشأن العراقي وهما سوريا وإيران، وقد يتخذ ذلك شكل مؤتمر إقليمي تدعو إليه الإدارة الأميركية. ولو صح هذا وأُحسن تطبيقه فإنه قد يعني أن المعضلة الأميركية في العراق ربما تأخذ طريقها إلى الحل، أو على الأقل قد تتطور في اتجاه يهيئ للرئيس الأميركي القادم إحداث تغييرات جذرية في السياسة تجاه العراق، غير أن هذا لن يحل معضلة المشروع القيادي الأميركي على صعيد العالم، فالأمر يحتاج من النخبة السياسية الأميركية إعادة نظر كاملة فيما جرى على أيدي بوش ورجاله، والأهم من ذلك أن المعضلة العراقية لن تحل بهذه الطريقة، لأن الاحتلال قد نجح للأسف في أن يحدث تمزيقاً حقيقياً في الكيان العراقي لن يعالجه تغير السياسة الأميركية وحده، وإنما يواجهه أبناء العراق المخلصون الذين يتعين عليهم من الآن أن يعملوا بكل السبل الممكنة على تحقيق الحد الأدنى من المصالحة الوطنية العراقية كي يكون وطنهم مستعداً لقطف ثمار الإنجاز الذي حققوه، وهي مهمة بالغة الصعوبة لكنها ليست مستحيلة على شعب قهر احتلالاً بثقل الاحتلال الأميركي وغطرسته.