في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة للكونجرس الأميركي لم ينتظر الملايين من الناخبين حتى اليوم المحدد للانتخابات للذهاب إلى مراكز الاقتراع كما يحدث عادة كما لم يستمعوا إلى تلك النداءات التي يقدمها المرشحون عادة في الدقائق الأخيرة، كي يقوم الناخبون باختيارهم. لم يحدث شيء من هذا، وإنما الذي حدث هو أن الناخبين كانوا قد حزموا أمرهم وحددوا خياراتهم وعبأوا نماذج بطاقات الاقتراع الغيابي Absentee ballots وهم مرتاحون في مكاتبهم أو غرف الجلوس بمنازلهم أو في أي مكان كان يمكنهم تعبئة تلك البطاقات فيه. يمتدح الكثير من علماء السياسة والمعلقين نظام التصويت عن طريق بطاقات الاقتراع الغيابية، ويعتبرون أن هذا النظام يمثل نقطة تحول حاسمة في الممارسة الديمقراطية، وخصوصاً من حيث إنه يمكن أن يزيد من عدد المشاركين في الانتخابات بسبب ما يوفره من راحة وما يجنبه من عناء. وكانت الزيادة الكبيرة والدراماتيكية في نظام التصويت الغيابي قد بدأت عام 2002 عندما تم "وضع قانون التصويت الغيابي الدائم" موضع التنفيذ، وهو ما أتاح الفرصة لكل من يرغب من الناخبين في الإدلاء بصوته عن طريق البريد. وفي انتخابات الإعادة التي جرت عام 2003 كان 40 في المئة من إجمالي الناخبين (3.2 مليون نسمة تقريباً) هم من الذين أدلوا بأصواتهم عن طريق البريد. وفي الانتخابات التمهيدية للعام الحالي 2006 وصلت هذه النسبة إلى 47 في المئة أو (5.2 مليون ناخب) من الذين تم عد أصواتهم. لم يتسنَّ حتى الآن معرفة النسبة الدقيقة للناخبين الذين أدلوا بأصواتهم غيابياً عن طريق البريد في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة وإنْ كان بعض المراقبين يتوقعون أن نسبة من كانوا قد حزموا أمرهم، وحددوا اختياراتهم وأدلوا بأصواتهم عن طريق "الاقتراع الغيابي" بالبريد قد بلغت 20 في المئة، قبل أن تبدأ تلك الانتخابات بعدة أيام (ويذكر في هذا الصدد أن هناك 30 ولاية من إجمالي الولايات الأميركية تعتمد نظام الاقتراع بالبريد أو الاقتراع الغيابي). وفي هذا الصدد، يتوقع "مارك دي كاميلو" مدير مؤسسة "فيلد بول" أن نسبة الإدلاء بالأصوات عن طريق البريد أو التصويت الغيابي يمكن أن تصل إلى 60 في المئة في بحر سنوات قليلة. وعلى الرغم من أن التصويت الغيابي عن طريق البريد مريح بالنسبة للناخبين، فإنه يمثل صداعاً لمخططي وخبراء الحملات الانتخابية. فالمستشارون والخبراء الاستراتيجيون الذين يقومون بتخطيط الحملات سيضطرون إلى بذل جهد كبير من أجل فهم طبيعة وشكل المشهد السياسي الجديد. ومع وصول عدد مواطني كاليفورنيا الذين يدلون بأصواتهم غيابياً عن طريق البريد الإليكتروني إلى 50 في المئة تقريباً، فمن المحتم أن يؤدي ذلك إلى أعباء إضافية على مخططي الحملات الانتخابية الذين يتعين عليهم زيادة الجهود التي يقومون بها من ناحية وزيادة تكلفة الحملات الانتخابية من ناحية أخرى من أجل التأثير على أصوات الناخبين الذين يدلون بأصواتهم عن طريق البريد. ووفقاً لـ"دان تشنور" الخبير الإعلامي والاستراتيجي "الجمهوري" وغيره من المستشارين، فإن أي مرشح مطالب بأن يقوم بعدة حملات منفصلة ولكنها متداخلة: واحدة قبل الانتخابات بثلاثين يوماً، وأخرى قبلها بخمسة عشر يوماً. وخلال الأسبوعين المتبقيين على موعد الانتخابات تشن الحملة التقليدية المكثفة اللازمة لاستقطاب الأصوات. ويمكن القول بناء على ذلك إن يوم الانتخابات حسب النظام الجديد، قد أصبح مثل شهر الانتخابات في النظام التقليدي. ويقول "داري سراجاو" الخبير الاستراتيجي لحملات الحزب "الديمقراطي" إن خطط الإنفاق على الحملات الانتخابية قد تغيرت تغيراً كبيراً بسبب الزيادة في نسبة التصويت بالبريد. ففي السابق كان التخطيط يتم من يوم الانتخابات رجوعاً إلى ما قبل ذلك التاريخ بثلاثين يوماً... ووفقاً لذلك النظام كانت الحملة الانتخابية تزداد زخماً كلما اقترب يوم الانتخابات، أما الآن فإن الأمر أصبح يستدعي توزيع المجهود، والأموال على فترة أطول، وهو ما يعني تغيير كل شيء. ويعلق "دان شور" على ذلك بقوله: "وفقاً للنظام الجديد، لم يعد المتبع هو ادخار مجهودك حتى اللحظة الأخيرة، وإنما توزيع هذا الجهد وتوزيع مبالغ الإنفاق على فترات أطول على برامج دعائية وإعلانات، لأن ما يحدث الآن هو أن نسبة لا بأس بها من المصوتين عن طريق البريد الإليكتروني تكون قد حددت اختياراتها قبل اليوم المحدد للانتخابات بعدة أيام، وهو ما يستدعي بالتالي تغيير أسلوب عمل الحملات الانتخابية وأسلوب الإنفاق كي يتماشيا مع الوضع الجديد". وإجراء تغيير على أسلوب الإنفاق ليتفق مع "التصويت الغيابي" بالبريد لا يعد مشكلة بالنسبة للحملات الانتخابية التي لا تعاني من نقص الأموال، أما الحملات التي تعاني من مثل هذا النقص، فإن التصويت بالبريد يمثل مشكلة بالنسبة لها سواء من ناحية التخطيط أو من ناحية الشؤون اللوجستية، أو من ناحية تحديد الجدول الزمني لنشاط الحملة وكلها أمور تحتاج إلى موارد مالية ضخمة لإجراء حملة انتخابية ناجحة سيؤدي عدم توافرها إلى إخفاق مثل تلك الحملات أو عدم تحقيقها للنتيجة المرجوة. بعض المخططين الاستراتيجيين وعلماء السياسة المتخصصين يعبرون عن القلق من احتمال أن يؤدي توزيع عملية الإدلاء بالأصوات على مدى 4 أسابيع للسماح بالتصويت عن طريق البريد إلى تشتيت انتباه الرأي العام وتقليص أهمية التقليد الذي كان يقضي بالتوجه إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بالأصوات وسط جموع الناخبين والذي كان يمثل تقليداً خاصاً ومميزاً وركناً راسخاً من أركان الديمقراطية الأميركية. ستيفن هيل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير برنامج الإصلاح السياسي في "نيو أميركا فاونديشن" ومؤلف كتاب: "عشر خطوات لإصلاح الديمقراطية الأميركية" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"