بالنسبة لمعظم دول العالم، فإن الحرب الباردة انتهت، عندما سقط حائط برلين، بيد أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للدول الواقعة في حوض الكاريبي. ففي هذه المنطقة، ساهم عناد بعض المحاربين القدامى الذي خاضوا غمار الحرب الباردة في واشنطن، والعناد المقابل له من جانب الحكومات "اليسارية" في كوبا وفنزويلا، في إبقاء لهيب تلك الحرب مشتعلاً وإنْ كان ذلك على نطاق مصغر. وهكذا فإنه وبعد انقضاء 20 عاماً على نهاية تلك الحرب، فإن نيكاراجوا تجد نفسها مرة أخرى، وسط صراع جديد، بعد أن أسفرت الانتخابات التي جرت هذا الأسبوع عن انتخاب "دانييل أورتيجا" قائد المتمردين الماركسي السابق رئيساً للبلاد. والحقيقة أن "أورتيجا" يجد نفسه في موضع صعب، إذ عليه من جهة أن يرضي طموحات أنصاره باستئصال الفقر، والحد من طغيان الرأسمالية المتوحشة، والاحتفاظ بعلاقات ودية مع حلفائه "اليساريين" كـ"فيدل كاسترو"" في كوبا، و"هوجو شافيز" في فنزويلا، الذي يمكن لبلده أن يكون مصدراً للوقود الرخيص والأموال التي يمكن لـ"أورتيجا" استخدامها في تمويل برامجه الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، ليس في مقدور "أورتيجا" أن يفقد ما يزيد عن 50 مليون دولار التي تقدمها له أميركا كإعانة أو قرض من صندوق النقد الدولي، كما أنه ليس بمقدور بلاده التي تعتبر من أفقر الدول في نصف الكرة الجنوبي أن تتخلى عن اتفاقية التجارة الحرة التي عقدتها دول أميركا اللاتينية مع الولايات المتحدة. فلكي تتمكن "نيكاراجوا" التي يبلغ عدد سكانها 5.6 مليون نسمة من أن تظل على قيد الحياة، فإنها تحتاج إلى الاستمرار في تصدير النسيج والفواكه إلى الولايات المتحدة واستلام التحويلات التي يرسلها عمالها المهاجرون العاملين هناك خصوصاً، وأنها دولة تضطلع فيها الحكومة بكافة المسؤوليات عن رعاية شعبها وتعتمد اعتماداً كبيراً على التحويلات والمعونات الخارجية. والأكثر من ذلك أن "أورتيجا"، فاز في الانتخابات بنسبة 38 في المئة من الأصوات، وأن الجمعية العمومية في البلاد مقسمة بين أربعة أحزاب، وهو ما يعني أن أية خطوة سيتخذها ستتطلب قدراً كبيراً من المفاوضات والتفاهمات والتسويات مع مشرعي القوانين "المحافظين"، الذين يحاولون جاهدين ألا يغضبوا إدارة بوش بأي شكل من الأشكال. ووضع "أورتيجا" المقلقل يفسر اللهجة الحذرة التي استخدمها في خطاباته الأخيرة، والتي اعتمد فيها في الأساس على تقديم وعود وردية بتوفير "الوظائف والسلام والتسوية في البلاد". وفي تلك الخطابات حرص "أورتيجا" على عدم مهاجمة الولايات المتحدة، وتجنب استخدام العبارات الماركسية، بل وحاول أن يبرز قناعاته الدينية الجديدة وتحدث عن الله بأكثر مما تحدث عن "البروليتاريا". ومع ذلك، فإن الملاحظ أن روح الثوري القديم فيه تستيقظ من آن لآخر، حيث أطلق على بوش لقب "ريجان هذا العصر"، وأكد أن رونالد ريجان حاول في الماضي جلب الدمار والخراب لبلاده. ومنذ أن أعلنت نتيجة الانتخابات، حاول "أورتيجا" جاهداً أن يهدئ رجال الأعمال، وأن يؤكد للمستثمرين الخارجيين أنه سيحمي حقوق الملكية في مقابل مساعدتهم له في محاربة الفقر. بيد أنه في الخطاب الذي احتفل فيه بانتصاره أوضح أنه لن يكون ذيلاً لواشنطن في المنطقة، وقدم الشكر لـ"أخويه" كاسترو وشافيز، ثم ألقى ملاحظة داله موجهة لواشنطن عندما قال إن "الساندينستيين" لم يكونوا هم الذين قطعوا العلاقات مع واشنطن بعد ثورة 1979 بل إن "العكس تماماً هو الذي حدث". وقال "أورتيجا" أيضاً إنه سيدفع بلاده التي تبيع 60 في المئة من صادراتها إلى الولايات المتحدة نحو الانضمام إلى تكتل تجاري مناوئ لأميركا، يحاول شافيز تدشينه. كما قال أيضاً إنه سيسعى إلى عقد اتفاقيات تجارية مع أوروبا وبلدان أميركا اللاتينية. وحتى الآن فضلت أميركا أسلوب الانتظار لرؤية ما سيحدث بعد أن بدا لها وكأنها تتعامل مع رجل ذي شخصيتين مختلفتين وإنْ كانت كل منهما تحمل اسم "دانييل أورتيجا". في هذا الإطار، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية "جونزالو جاليجوس" إن تعاون بلاده مع "أورتيجا" سيعتمد على العمل من أجل دعم المستقبل الديمقراطي لنيكاراجوا. وفي الوقت نفسه استخدم كل من كاسترو وشافيز انتصار "أورتيجا" لتغذية آلة الدعاية الإعلامية في بلديهما؛ ففي هافانا قال كاسترو إن "فوز أورتيجا يملأ قلوب شعبنا الكوبي بالفخر، كما أنه يملأ قلب حكومة الولايات المتحدة الإرهابية والتي ترتكب المذابح الجماعية ضد الشعوب بالعار". وفي كاراكاس قال شافيز إنه سيتحد مع أورتيجا" بصورة لم تحدث من قبل من أجل بناء مستقبل اشتراكي. وعلى الرغم من أن نيكاراجوا لا تكاد تمثل تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، فإن ذكريات الحرب السرية التي خاضتها الولايات المتحدة ضد "أورتيجا" وثوار "الساندينستا" الذين كان يقودهم، قد تؤثر على سياسات بوش خصوصاً وأن "روبرت أم جيتس" الذي اختاره بوش كي يحل محل رامسفيلد كان من كبار المسؤولين الأميركيين الذين انخرطوا في تلك الحرب وقتها. وحول هذه النقطة يقول "جيف تيل" من "مكتب واشنطن لشؤون أميركا اللاتينية" الذي يدير مجموعة أبحاث خاصة: "من بين الأسئلة المهمة التي سيتعين الإجابة عنها بصرف النظر عما سيقوم به أورتيجا ذلك السؤال المتعلق بالنهج الذي ستتبعه الولايات المتحدة في التعامل معه". والأشخاص الذين يعرفون "أورتيجا" يخشون أن يؤدي الضغط الذي قد تمارسه واشنطن عليه إلى دفعه للتصرف بشكل قد يضر بمصالحها. ويوضح "سيرجيو راميريز" الذي خدم كنائب رئيس في أواخر الثمانينيات تحت حكم "أورتيجا": "إن أسوأ ما يمكن أن يحدث إذا ما قام أورتيجا بمد يده لبوش ورفضها الأخير هو أن يكون رد أورتيجا على ذلك بالقول.. حسناً ما دام أن الأمر كذلك فسوف أمد يدي لشافيز". جيمس سي. ماكينيللي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "نيويورك تايمز" في ماناجوا – نيكاراجوا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"