جاءت نتائج انتخابات "التجديد النصفي" الأميركية لتبصم بالأصابع العشرة على صحة كل التوقعات واستطلاعات الرأي التي أشارت منذ وقت مُبكر إلى خسارة للرئيس بوش وحزبه، وحصل بذلك "الديمقراطيون" المتحفِّزون للانقضاض على البيت الأبيض، على أغلبية السلطة التشريعية. وجاءت أولى توابع الزلزال مُدوية، فقد سقط رأس وزير دفاع بوش الثرثار دونالد رامسفيلد، وكان بذلك أول "كبش فداء" يتم تقديمه بين فكي المقصلة السياسية العراقية، ولا يستبعد أن يلحق به آخرون، فقد تجري عملية مطاردة سياسية واسعة في أروقة إدارة بوش تسفر عن "مجزرة" قاسية في صفوف "المحافظين الجدد"، المتغلغلين في ثنايا وزوايا هذه الإدارة، خاصة أن دموع الأميركيين لن تذرف من أجلهم أبداً، ومن باب أولى ألا تذرف عليهم دموع غير الأميركيين طبعاً. وفي ضوء هذه التطورات المتلاحقة يصبح السؤال الآن هو: إلى أين من هنا، أميركياً، وعراقياً، واستطراداً إقليمياً؟ أميركياً، يكتسب هذا السؤال مشروعية طرحه طبعاً من كون الرسالة التي وضعها الناخبون الأميركيون في صناديق الاقتراع والموجهة إلى رئيس دولتهم كانت بالبنط العريض، وبدرجة من الوضوح يستحيل معها ألا يقرأها الرجل، مهما قيل عن "بلادته" و"غبائه". ولأن بوش لم يعد سيد قراره المُطلق، بعد أن فرضت عليه الظروف التعايش مع كونجرس "مُعادٍ" تحت سقف واحد، فإن الأقرب إلى التصور الآن أن يبادر هو من تلقاء نفسه إلى تبني ما ستوصي به لجنة "بيكر - هاملتون"، التي أجَّلت إعلان ما توصلت إليه بشأن العراق حتى لا يؤثر ذلك على انتخابات "التجديد النصفي". وحسب ما رشَح من تسريبات حتى الآن أن لجنة المخضرمين تلك أوصت بتغيير قواعد اللعبة في العراق بشكل جذري، وأنها دعت إدارة بوش إلى إيجاد قنوات اتصال وتفاهمات في حدود معينة مع إيران وسوريا تحديداً، وإلى الاستعداد لتقديم تضحيات سياسية "مؤلمة". والأرجح أن يعلن بوش قريباً عن نهاية العرْض الشرق أوسطي، فيسدل الستار ويطفئ الأنوار فجأة، ويسحب من التداول عبارات من قبيل "الدمقرطة" و"الإصلاح"، بعد أن دفع ثمن كل تلك السفسطة، والتي ثبت مع الوقت أنها كانت مجرد ثرثرة زائفة، وإن كانت تتغذى، للأسف، بضحايا حقيقيين. أما عراقياً ففي مقابل ضرورة خروج الأميركيين من الصورة العراقية سياسياً، فهناك ضرورة مُلحة لبقاء حضورهم وبقوة والتزام شديد، عسكرياً. فمَن خلق كل هذه الفوضى والحرب الأهلية، ومن سرَّح الجيش العراقي أصلاً وقوات الشرطة العراقية، غير الأميركيين؟ ومن أخبر الأمم المتحدة رسمياً، ودون أن يطلب منه أحد ذلك، بأنه يتحمل المسؤولية كاملة عما يجري في العراق باعتباره قوة احتلال، وبموجب ما يفرضه القانون الدولي من التزامات في هذه الحالة؟ إن احتلال العراق ليس مزحة وليس عملاً من أعمال "السيرك السياسي" الدارجة في التقاليد السياسية الأميركية، بحيث يدخل الأميركيون هكذا عنوة متى شاءوا ويخرجون متى شاءوا، ووفق المزاج السياسي الأميركي وحده، وليس وفق مقتضيات الحقائق القائمة اليوم على الأرض في بلاد الرافدين. أما إقليمياً، فلو قدر للأميركيين أن يخرجوا الآن من العراق، فستجد العديد من دول المنطقة نفسها في مواجهة موجات إرهاب لا سابق لها، خاصة بعد تغوُّل جماعات العنف واستفحال أمرها وحصولها على منصة انطلاق قريبة، وفي أجواء من الفوضى العارمة لم يكن الإرهابيون أنفسهم يحلمون بها. هذا إضافة إلى إمكانية اندلاع نزاعات إقليمية واسعة بسبب نفط العراق، ولأسباب أخرى تتعلق بمحاولات احتواء هذا الطرف العراقي أو ذاك، والأطراف المرشحة هنا للدخول على خط تصفية التركة الأميركية في بلاد الرافدين ليست فقط عربية بل تشمل أيضاً إيران وتركيا، وربما في مرحلة لاحقة إسرائيل.