زيارة إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي لواشنطن خلال هذا الأسبوع، تتيح للرئيس الأميركي جورج بوش فرصة ذهبية لتصحيح ذلك الانزلاق الكارثي لسياساته الشرق أوسطية نحو الهوة السحيقة. ولكن السؤال هو: هل يغتنم بوش هذه الفرصة؟ أي هل يستدعي الرئيس أجهزة استخباراته، ويستنهض عزمه وإرادته وشجاعته، ليحدث تغييراً في سياساته القائمة؟ من ناحيتي أقول إنه وعلى رغم التحولات العاصفة التي طرأت على المشهد السياسي الأميركي مؤخراً، إلا أنه لا توجد أرضية تدعم التفاؤل بتغيير مجرى السياسات القائمة حالياً. وليس هناك سوى القليل من مراقبي هذا المشهد، ممن يتوقعون حدوث تغييرات جذرية في استراتيجيات الإدارة الحالية، على رغم فوز "الديمقراطيين" الأخير في الانتخابات النصفية التي أجريت للتو، وعلى رغم استبدال دونالد رامسفيلد، هذا الصقر "الجمهوري" الجارح في وزارة الدفاع، بخلفه "روبرت جيتس"، بكل ما يعرف عنه من حذر وحنكة مهنية استخباراتية، منذ أن كان مديراً سابقاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وهناك من المتفائلين من يتوقع أن ينقلب هذا المد السياسي الجارف، على تيار "المحافظين الجدد" الموالي لإسرائيل، الذي هيمن على السياسات الأميركية الشرق أوسطية منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأن تكون الغلبة الجديدة لتيار ما يسمى بـ"الواقعيين" بقيادة موظفين سابقين في الخدمة العامة، من أمثال زبيجينيو بريجنسكي وبرينت سكوكروفت، اللذين يدعوان إلى تبني سياسات معتدلة إزاء الشرق الأوسط. كما تعلق آمال عراض على عودة جيمس بيكر إلى وسط منصة المسرح السياسي الأميركي مجدداً، وهو الذي كان قد عمل وزيراً لخارجية إدارة جورج بوش الأب، وكان كبير مهندسي مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991. ويخوض بيكر الآن سباقاً مضنياً مع مهمة التحديات الموكلة إليه فيما يتصل بإعادة النظر في الاستراتيجيات الأميركية المعمول بها حالياً في العراق. فهو يشارك زميله "الديمقراطي"، "لي هاملتون"، رئاسة لجنة مكلفة بدراسات العراق، يتوقع لها أن ترفع تقريرها حول ما توصلت إليه، في وقت مبكر من مطالع العام المقبل. غير أن تصحيح السياسات الأميركية الشرق أوسطية السارية، إنما يتطلب ما يشبه إلى حد كبير، حدوث هزة أرضية مزلزلة في سياسات كل من واشنطن وتل أبيب. ولا تلوح في الأفق حتى هذه اللحظة، أية إشارة لاحتمال حدوث هزة كهذه، في كلتا العاصمتين. ذلك أن التغييرات المطلوبة فيهما، هي من الضخامة والجذرية، إلى درجة تجعلها غير واقعية وبعيدة المنال. ولنناقش فيما يلي، المتطلبات الأساسية لإحداث التغيير المأمول في السياسات الجارية حالياً. أولاً: يتعين على الولايات المتحدة الانسحاب من العراق على جناح السرعة واللياقة الممكنتين. ولكن ألا ما أصعب المهمة! ذلك أن الحرب العراقية قد أسفرت عن دمار هائل، سواء من حيث عدد الضحايا، أم من ناحية الدمار المادي، وتبديدها للموارد المالية للبلاد. كما تفشت بسببها دائرة الفوضى العامة، لتشمل المنطقة الإقليمية كلها، إضافة إلى تعضيدها لشوكة العنف والإرهاب والمواجهات الطائفية. ولعل الضحية الكبرى لهذه الحرب، هي خسارة أميركا لسمعتها وهيبتها الأخلاقية. وعلى رغم هذه الخسائر الفادحة جميعاً، فإنه لم يتحقق بعد إجماع في دوائر واشنطن الحاكمة على جسامة خطأ شن الحرب أصلاً، وعلى أن السبيل الوحيدة لتصحيحه، هي الانسحاب التام من العراق. بل على نقيض ذلك تماماً، فإن هناك من مهووسي "المحافظين الجدد" –من أمثال "ويليام كريستول"، محرر أسبوعية "ستاندرد ويكلي"- من لا يزالون يحضون الإدارة، على إرسال المزيد من التعزيزات والجنود إلى العراق! وفي المقابل، فإن الذي لا ريب فيه، أن يجادل أصدقاء إسرائيل بالقول إن تدمير دولة عربية كبرى مثل العراق، قد عزز أمان البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل، لكونه قضى تماماً على أي مهدد شرق أوسطي لها. غير أن أميركا دفعت ثمناً باهظاً للغاية، جراء سياساتها هذه، وسيتعين عليها الاستمرار في دفعه سنوات وسنوات، ما لم تسترد استقلالية وحياد سياساتها إزاء المنطقة. ثانياً: يتطلب إحداث تغيير جوهري في السياسات، التصدي لتفاقم النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وهو النزاع الذي يعود غليه الدور الأكبر في إلهاب المشاعر العربية الإسلامية ضد أميركا. ولكن المشكلة أنه لا يرجح حدوث تغيير يذكر هنا أيضاً، بسبب العقبات الداخلية المستبطنة، التي تقف أمامه في كل من واشنطن وتل أبيب. ذلك أن تغيير المسار الحالي، إنما يتطلب التزاماً من الرئيس بوش، بالانخراط طوال العام المقبل، في مسعى جدي لإيجاد تسوية شاملة للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وسيتطلب منه ذلك، الإعلان عن معايير تفصيلية دقيقة، للكيفية التي ستتم بها التسوية، على نحو ما كان قد حاول الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وكخطوة تمهيدية لوضع هذه المعايير، فإن عليه أن يرغم أولمرت، على رفع الحصار الفظ الذي يفرضه حالياً على فلسطينيي القطاع والضفة الغربية، إلى جانب الكف عن كافة الأنشطة التوسعية الاستيطانية، التي يقوم بها حالياً. يذكر أنه قد توفرت فرص لا حصر لها للرئيس بوش لفعل هذا خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أنه بددها جميعاً. فهل لنا أن نتوقع منه تغييراً مفاجئاً الآن؟ ثالثاً: على إسرائيل أن تدرك أن مستقبلها، بل وشرط وجودها نفسه في المنطقة، إنما يعتمد على انتهاجها سياسة تعايش سلمي مع جيرانها العرب. ويطالبها هذا، بإعادة النظر في عقيدتها الأمنية القائمة على فرض هيمنتها على العرب والإيرانيين، عن طريق القوة العسكرية الضاربة. وقبل كل شيء، فإن عليها التنازل عما تبقى لها مما احتلته في عام 1967، أي كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهضبة الجولان، وتلك الجيوب الصغيرة المحتلة داخل الحدود اللبنانية. ولكن هل لنا أن نتوقع تحقيق أي من هذه المطالب؟ على نقيض هذا تماماً، فقد توغل أولمرت عميقاً باتجاه أقصى "اليمين" الإسرائيلي، بتعيينه لأفيجدور ليبرمان المعروف بعنصريته وتعصبه ضد العرب، وزيراً في مجلس حكومته. وكرد فعل منها على صدمتها الناشئة عن عجزها عن سحق "حزب الله" في حرب الصيف اللبنانية الأخيرة، فقد استعرت فيها حمى توسيع جيشها وزيادة قدراتها العسكرية، تأهباً لخوض حرب ثانية ساحقة مرتقبة، ضد "حزب الله"، بدلاً من استجابتها لتعالي العديد من الأصوات العربية المنادية بالعودة إلى طاولة المفاوضات. وفي الوقت الذي تواجه فيه واشنطن جملة من المصاعب والتعقيدات في المنطقة الشرق أوسطية، فإن على القادة العرب إلقاء ثقلهم على حلبة الحوار، وإعلاء أصواتهم في أرجاء واشنطن. كما يتطلب منهم نفخ روح جديدة قوية في خطة السلام السعودية، التي صادق عليها العالم العربي كله في مارس من عام 2002. غير أن انشقاقات وانقسامات العرب الداخلية، مضافة إليها سلبيتهم، لهي من العمق إلى درجة تحول دونهم وتنسيق أي جهد عربي مشترك، تماماً كما يتعذر حدوث أي تغيير جوهري مأمول، سواء كان في واشنطن أم تل أبيب.