إزاء إصرار طهران على الاستمرار في اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب اليورانيوم على أراضيها، بعكس ما اقترحت عليها الدول الغربية المعنية بحظر انتشار الأسلحة الذرية، ردت الدول العربية الرئيسية بأسلوبين. الأول جاء مبكراً على لسان الأمين العام للجنة السياسات في "الحزب الوطني" الحاكم في مصر، جمال مبارك، والثاني أتى من المملكة العربية السعودية وقد عكسته تصريحات بعض فقهاء المملكة وعلمائها. قال مبارك الابن في خطبته خلال مؤتمر الحزب (19 سبتمبر 2006) إن مصر جاهزة للعودة إلى إطلاق برنامجها الذري الذي كانت قد أوقفته بعد كارثة تشرنوبيل عام 1986. ولم تمضِ أيام حتى أكد الرئيس حسني مبارك نفسه هذا الخيار مشيراً إلى حاجة مصر إلى موارد طاقة جديدة، ورغبتها في تأمينها عن طريق استغلال التقنية النووية لأهداف سلمية. في المقابل نزع عدد من العلماء السعوديين إلى التركيز منذ بعض الوقت على المسألة المذهبية، كرد فعل على الاختراق الذي أخذ يحققه ما سمي "المحور الشيعي"، كما ذكر الشيخ الحوالي، في مناطق بلاد الشام، أي في سوريا ولبنان، وربما في العراق أيضاً، ملمحاً إلى أن مثل هذا الاختراق لن يبقى من دون رد. ورغم أن العلاقات العربية- الإيرانية لم تكن على درجة كبيرة من التوتر في السنوات القليلة الماضية، بل نزعت إلى التطبيع خلال رئاسة محمد خاتمي، فإن عدداً من الأحداث المهمة التي جرت في الفترة الأخيرة، دفع البلدان العربية إلى الشعور بتفاقم الخطر الإيراني، ولم يكن تصميم إيران على امتلاك التقنية النووية إلا أحد العوامل فيها. ومما لاشك فيه أن تدهور الأوضاع العراقية بعد التدخل العسكري الأميركي عام 2003، قد فاقم مخاوف الدول الخليجية من تحول العراق إلى منطلق لتمدد نفوذ الثورة الإسلامية الإيرانية، بعد أن راهنت عليه لعقود طويلة كدرع قوي يقف في وجهها ويدرأ الخطر الإيراني عنها. وجاء انتخاب أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية الإيرانية، وهو المعروف بتشدده وبسياسته القومية الإيرانية، ليعزز من هذه المخاوف. لكن درجة الشعور بالتهديد ستتفاقم بشكل أكبر بعدما نجح أحمدي نجاد في تشكيل محور قوي يجمع بين طهران ودمشق وبيروت ممثلة في "حزب الله"، ثم بعد الإنجاز العسكري الكبير الذي حققه هذا الحزب على إسرائيل في صيف العام الحالي، وانسحاب دمشق من محور التنسيق السعودي- المصري التقليدي واتهامها لشركائها السابقين بالتخاذل والتهجم عليهم. وما كان من الممكن لمشروع التقنية النووية الإيرانية في مثل هذه الظروف أن يمر من دون أن يفاقم إحباط الدول العربية ومخاوفها. خاصة أن إيران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول حتى الآن. ولا يكفي ترديد بعض المسؤولين والمعلِّقين الصحفيين الإيرانيين فكرة أن القوة النووية الإيرانية لن تكون موجهة ضد جيرانها. لا يتعلق السؤال الذي يستحق الطرح بتأكيد مخاطر تنامي القوة الإيرانية في الخليج على المصالح العربية وإنما في نوعية الاستراتيجيات الناجعة لمواجهته واستيعابه إن لم يكن التغلب عليه. فهل من الصحيح أن الدول العربية لا تملك إزاء تنامي هذه القوة التي نجمت عن انهيار العراق، سوى خيار الالتحاق بواشنطن والعمل على أجندتها القومية والانخراط في استراتيجيتها الدولية، وذلك انطلاقاً من الاعتقاد بأنها هي من يسيطر، شئنا أم أبينا، على الأوضاع الاستراتيجية الشرق أوسطية، ومن ثم يستحيل من دونها الحفاظ على أمن أي دولة خليجية؟ لا أعتقد أولاً أنه ليس هناك بديل عن الانخراط في الاستراتيجية الأميركية لضمان الأمن الوطني والقومي العربي والخليجي. بل العكس هو الصحيح. إن هذا الانخراط هو اليوم المصدر الرئيسي للمخاطر التي يمكن أن تهدد المنطقة بأكملها. والتجربة العراقية مثال على ذلك. وثانياً ليس من الصحيح أنه من المستحيل بناء استراتيجية أمنية عربية مستقلة عن الاستراتيجية الأميركية حتى وإن لم تكن مُعادية لها، كما يعتقد معظم القادة العرب اليوم. ولا ينبع الإيمان بإمكانية بلورة استراتيجية أمنية بديلة ذات درجة من الاستقلال الاعتقاد بزوال السيطرة الأميركية، ولا بضرورة مواجهة واشنطن والتمرد عليها. إنه ينبع من واقع انحسار قوة الردع الأميركية نفسها ونشوء فراغ لا تستطيع واشنطن ذاتها أن تملأه أو تدعي ملأه. وهي نفسها بحاجة إلى قوى أخرى حليفة أو غير مُعادية على الأقل تساعدها في الحفاظ على تراجعها والتغطية على المصاعب التي تواجهها. وواشنطن تدرك أن ذلك قد حصل بسبب الأخطاء التي ارتكبتها ومحدودية الرؤية الاستراتيجية التي وجهتها وضيق أفقها. وهي نفسها تمر اليوم في مرحلة مراجعة لهذه الاستراتيجية ليس من المؤكد أن ينجم عنها شيء كثير طالما أنها مرتبطة بأجندة السياسة الأميركية الداخلية نفسها. باختصار إن ما كان مستحيلاً البارحة أصبح ممكناً اليوم، إلى حد كبير، نظراً لما أصاب المواقع الأميركية الاستراتيجية من تدهور في السنوات الثلاث الماضية والتناقضات التي ميزت خططها وتشوش أهدافها وتخبط تكتيكاتها، وهزائمها العسكرية المتتالية، من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان... وفي النتيجة إخفاقها في إقناع المجموعة الدولية بصحة اختياراتها. بل إن هذا الفراغ الأمني الذي ولده تهافت الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، هو الذي يفسر تنامي طموحات دولة مثل إيران واندفاعها لسده من خلال تطوير قدراتها العسكرية والتقنية وتغلغلها الواضح في المنطقة العربية، سياسياً وثقافياً، ومذهبياً كذلك. من هنا، فإنه بدل الاصطفاف وراء الولايات المتحدة لدعم خياراتها الخاسرة، وتعزيز موقفها تجاه طهران، ينبغي على الدول العربية أن تستفيد من انحسار النفوذ والقوة الأميركيين من أجل توسيع هامش اختياراتها المستقلة، أي العمل على تطوير سياسة أمنية عربية مستقلة، قد يكون التفاهم العربي أولاً وفتح مفاوضات مع إيران ثانياً ركيزتيها الرئيسيتين في إطار رؤية إقليمية جديدة لتعزيز استقلال المنطقة، وتوسيع هامش مبادرة دولها جميعاً تجاه الأحلاف والتكتلات الدولية الخارجية. في نظري هذا هو الخيار الوحيد الناجع لاستيعاب مخاطر تنامي القوة الإيرانية من جهة، وتقليل فرص الصدام والتنافس بين طهران والعواصم العربية الرئيسية من جهة ثانية، وإخراج المنطقة بأكملها من خطر التحول إلى مسرح للتنافس الدولي وللحروب الساخنة والباردة، من جهة ثالثة. إن خلق منظمة إقليمية للأمن والسلام في المنطقة، بالتعاون بين الدول العربية وإيران وتركيا قد يكون الخيار الوحيد القادر على سد الفراغ الاستراتيجي الذي ولده انحسار القوة الردعية الأميركية.