كان فوز "الديمقراطيين" في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأميركي بكلتا غرفتيه إنجازاً مدهشاً أخرج الحزب "الجمهوري" من حلبة المنافسة، إلا أن النصر في حد ذاته كان بعيداً. ذلك أن أي إنجاز تاريخي يتأسس على ثورة فكرية في الحياة السياسية الأميركية. فمن بين جميع الانتخابات النصفية الستة عشرة التي تلت الحرب العالمية الثانية يمكن تصنيف الانتخابات السابعة عشرة الأخيرة على أنها انتخابات الرفض والعقاب أكثر منها أي شيء آخر إذ كشفت عن استياء واسع إزاء سياسات الرئيس بوش وحزبه. ولأن تداعيات الانتخابات الأخيرة، وبخاصة أنها اتخذت شكل العقاب والرفض للطرف الآخر، فإن من الصعب التكهن بما سيترتب عن فوز "الديمقراطيين" وحصولهم على الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ. ففي أعقاب 1946 عندما خسر الحزب "الديمقراطي" الأغلبية في الكونجرس اضطر الرئيس الأميركي الأسبق "ترومان" للعمل مع أغلبية "جمهورية" واستطاع تحقيق إنجازات كبرى مثل خطة مارشال، حيث نجح في البقاء لولاية أخرى في البيت الأبيض بعدما أعيد انتخابه عام 1948. وبعكس ذلك شقت إدارة إيزنهاور طريقها بصعوبة بعدما أسفرت انتخابات 1958 عن انتقال الأغلبية في الكونجرس إلى أيدي "الديمقراطيين" المتربصين بإدارته، ما أدى إلى تمهيد الطريق أمام الرئيس جون كيندي لدخول البيت الأبيض من أبوابه الواسعة في انتخابات عام 1960. وبينما نجح بعض الرؤساء الأميركيين في العمل مع المعارضة، فشل البعض الآخر في التعايش مع الخصوم السياسيين. فقد أخفق الرئيس ليندون جونسون في تمرير أي قانون بعد سيطرة "الجمهوريين" على الكونجرس أثناء انتخابات 1966، كما فشل الرئيس جيرالد فورد في الحفاظ على الرئاسة بسبب التأثير المدمر لفضيحة "ووتر جيت" وصعود "الديمقراطيين" إلى مركز السلطة عام 1974. غير أن رونالد ريجان الذي عانى من فقدان الأغلبية في مجلس الشيوخ سنة 1986 استطاع مقاومة الضغوط إثر تفجر قضية إيران- كونترا، حيث استطاع نائبه جورج بوش الأب الفوز بالانتخابات الرئاسية عام 1988. وقد بدأت النسخة المعاصرة لانتخابات الرفض والعقاب مع "ثورة الجمهوريين" عام 1994 التي منحت الحزب "الجمهوري" السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ. غير أن ذلك لم يمنع الرئيس بيل كلينتون من القيام بأداء جيد خلال فترته الرئاسية بفضل ثقة الشعب الأميركي من جهة وفشل "الجمهوريين" في اعتراض طريقه وعرقلة مشاريعه من جهة أخرى. وبعمله الدؤوب مع النواب "الجمهوريين" استطاع كلينتون تمرير قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية ونجح في كسب ثقة الناخب الذي صوت عليه في الانتخاب الرئاسية للمرة الثانية. وإذا كان التاريخ لا يسعفنا كثيراً في استقاء دروس قد تلقي الضوء على ما ستكون عليه فترة ما بعد الانتخابات العقابية كالتي شهدناها مؤخراً، إلا أنه مع ذلك يمكن معرفة الأمور التي يتعين على الحزبين التركيز عليها في المرحلة المقبلة. فبالنسبة لـ"الجمهوريين" سيحاولون تحقيق إنجازات مع خصومهم "الديمقراطيين" تحت قبة الكونجرس، وفي نفس الوقت السعي إلى إظهار الأعضاء "الديمقراطيين" في مجلسي النواب والشيوخ على أنه من الصعب إرضاؤهم، وبالتالي على أنهم غير منسجمين مع السياسات العامة. أما بالنسبة لـ"الديمقراطيين" فسينصب اهتمامهم على إثبات قدرتهم على الحكم وإدارة البلاد، خاصة وأن حملتهم الانتخابية ركزت على عدم كفاءة الحزب "الجمهوري" والفساد الذي طارد أعضاءه طيلة الفترة السابقة. هذا فضلاً عن أن نجاح "الديمقراطيين" في الانتخابات لم يكن استفتاء على أيديولوجيتهم بقدر ما كان عقاباً لخصومهم "الجمهوريين". وسيتطلب النجاح الانتخابي بعد عامين من الآن القدرة على صياغة رؤية شاملة للطريق الذي ستسلكه البلاد، وبرنامجاً تشريعياً دقيقاً وواضحاً. وبالطبع ستؤثر تلك الاعتبارات على السياسات التي ستتخذ على الصعيد الداخلي. فستتضافر سيطرة "الديمقراطيين" على الكونجرس وحرص "الجمهوريين" على عدم حرق أوراقهم السياسية للرفع من الحد الأدنى من الأجور، وإجراء إصلاحات تهم سياسات النفط وشركات صناعة الأدوية. ومن غير المرجح أن يتم إقرار خفض الضرائب كسياسة دائمة كما كان يتمنى بوش ذلك، ولا أن يتم إلغاؤها تماماً كما يريد "الديمقراطيون"، كما أنه من غير المتوقع أن تطال إصلاحات بنيوية النظام الضريبي في الولايات المتحدة. وستتركز السياسة التجارية الأميركية خلال السنتين المقبلتين على مقاومة الضغوط، حيث ستحاول الوقوف في وجه الدعوات الحمائية داخلياً، لكنها لن تقدم على المزيد من التحرير، لاسيما وأن الحزبين حريصان على الاستجابة إلى مطالب الطبقة الوسطى التي ما فتئت تبدي تخوفها من الآثار المحتملة للاتفاقات التجارية على مستواها المعيشي. وبالانتقال إلى الساحة الدولية تصبح التكهنات المستقبلية أكثر صعوبة وغموضاً. فقد عارض الأميركيون سياسة خارجية تجمع بشكل خطير بين العنف وعدم الكفاءة، ولعل استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد توحي بأن بوش قد فهم الرسالة. ولاشك أن إدارة بوش ستتعرض لضغوط دولية وداخلية لتغيير سياسته "البقاء في العراق" التي تمسك بها طيلة الفترة السابقة واستبدالها بانسحاب مدروس، بالإضافة إلى القبول بمواقف الدول الأخرى حيال إيران، وكوريا الشمالية وروسيا. ومع ذلك يتعين على الحزبين العمل سوية لإرجاع مصداقية أميركا في العالم من خلال إظهار الاستعداد لربط الأهداف بالنتائج من دون الخضوع تماماً للانتقادات، أو الضغوط الخارجية. ولا مناص من التعاون بين الحزبين للخروج باستراتيجية فعالة في التعامل مع العراق ومعالجة القضايا الدولية الأخرى. وفي هذا السياق تأتي نتائج الانتخابات الأخيرة لتمنحنا فرصة للتفاؤل الحذر إزاء المستقبل، فمهما كانت النتائج مخيبة لآمال شريحة سياسية معينة سيؤدي تغير تركيبة الكونجرس، فضلاً عن رئيس مصدوم، إلى إيجاد طريق مشترك نحو مستقبل أفضل. لورنس سامرز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزير المالية الأميركي السابق في عهد الرئيس بيل كلينتون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"