تداعيات البرنامج النووي الإيراني على منطقة الخليج موضوع متشعب، يمكن للباحث أن يتناوله من محاور عدة، أو من أكثر من منظور بحسب الاحتمالات والفرضيات. بيد أن المحور الأهم هو ذلك المتعلق بالخسائر الاقتصادية التي ستتكبدها المنطقة جراء حدوث تسرب إشعاعي. إذ يظل هذا الأخير وحده أمراً وارداً سواء كان البرنامج النووي الإيراني سلمياً أم حربياً، وسواء فرضت عقوبات دولية على طهران أم لم تفرض، وسواء وقعت مواجهة بين الإيرانيين والغرب بسبب هذا البرنامج أم لم تقع. ففي جميع الأحوال، يبقى هذا الخطر محتملاً كنتيجة لأخطاء فنية، أو أعمال إرهابية داخلية أو عمليات عسكرية خارجية، أو بفعل زلزال مُدمر، لاسيما وأن مفاعل "بوشهر" النووي مثلاً، يقع فعلاً على خط زلزال نشط. حدوث مثل هذه التسربات الإشعاعية، ستكون له بطبيعة الحال آثار بيئية وديموغرافية وصحية ونفسية وإنتاجية مؤلمة، لكنها كلها ذات تداعيات اقتصادية خطيرة، لأنها ستفرض على الخزينة العامة في دول المنطقة أكلافاً عالية، بمعنى أنها ستستنزف أموالاً طائلة لسنوات طويلة للإنفاق على ما تدمره الإشعاعات النووية في البر والبحر والجو، والإنفاق على إعادة تأهيل المناطق المتضررة وعمليات التهجير وإعادة التوطين وعلاج المصابين بالأمراض العضوية والنفسية أو تعويضهم. هذا ناهيك عن الخسائر الناجمة عما سيؤدي إليه مثل هذا التلوث النووي لا محالة من تعطل أو تجمد بعض الأنشطة الاقتصادية. وتكفينا في معرض بيان عظم مخاطر التسربات النووية وضخامة أكلاف معالجة تداعياتها، الإشارة إلى كارثة تشيرنوبل السوفييتية في أبريل 1986، والتي استخلص العالم منها دروساً كثيرة ومتنوعة، لكن الدرس الأبلغ والأهم كان مفاده أنه ما من دولة نووية في العالم، مهما بلغت قوتها العلمية وقدراتها البشرية واحتياطاتها الأمنية والفنية، مستثناة من وقوع مثل هذه الكارثة. وهكذا فإذا كان الاتحاد السوفييتي بجلال قدره وعظمته، وجيوشه الجرارة من العلماء والتقنيين، وخبرات مؤسساته العلمية الطويلة في المجال النووي، عجز عن تفادي وقوع مثل هذا الحدث الرهيب، فما بالك بدولة نووية ناشئة كإيران، كل تقنياتها وعلومها وإمكانياتها وخبراتها مستوردة أو في طور النشوء! وإذا كان الاتحاد السوفييتي بإمكانياته الاقتصادية واللوجستية الضخمة وما كان يتوفر عليه من بدائل كثيرة نتيجة اتساع رقعة أراضيه وتنوع موارده، عجز عن معالجة أضرار حادثة تشيرنوبل سريعاً، بل أورثها لروسيا الاتحادية وأوكرانيا وبيلاروسا اللواتي عجزن حتى الآن عن محو كامل آثار تلك الحادثة، فكيف سيكون الحال في إيران ودول الجوار الخليجي، التي مهما بالغنا في تقدير مواردها وإمكانياتها المالية والبشرية وقدراتها في التحكم والسيطرة فلن تصل إلى حدود ما كان متوفراً لدى السوفييت. وهنا لابد من الإشارة إلى مسألتين محددتين تمثلان جوهر الخطورة التي نتحدث عنها، وستكون لهما آثار اقتصادية مؤلمة على الخليج، وبصورة أكثر بكثير مما شعرت به شعوب الاتحاد السوفييتي: المسألة الأولى: أن مساحة دول الخليج مجتمعة صغيرة جداً قياساً بمساحة الاتحاد السوفييتي السابق، وبالتالي فإن تهجير السكان إلى مناطق أكثر أمناً في حالة التسربات النووية، على نحو ما قام به السوفييت، يبدو أمراً مستحيلاً، وبالتالي فليس أمام شعوب الخليج من خيارات سوى البقاء في أماكنها والاستسلام لما تحمله الإشعاعات النووية من أمراض، أو الهجرة إلى الخارج، وفي كلتا الحالتين ستكون الآثار الاقتصادية مكلفة. المسألة الثانية: دول الخليج العربية، على الأقل، تعتمد اعتماداً شبه كامل في مياه الشرب على تحلية مياه البحر، وبالتالي، فإن تسرب الإشعاعات النووية إلى هذه المياه يضعنا أمام خيارين كلاهما ذو أكلاف اقتصادية مدمرة هما، إما الموت عطشاً أو استيراد المياه من الخارج. وهذا يختلف بطبيعة الحال عما حدث في الاتحاد السوفيييي الذي لئن تضررت مياه بعض أنهاره بفعل حادثة تشيرنوبل، فإنه امتلك مصادر أخرى للمياه. وفي هذا السياق لا بأس بالإشارة إلى بعض الحقائق من واقع حادثة تشيرنوبل كمثال لما قد ينتظرنا في الخليج إذا ما تعرضت المفاعلات النووية الإيرانية لحادث طارئ: أولاً - إن عدد ضحايا مثل هذه الحوادث النووية قد يكون صغيراً وقت وقوعها، لكنه كبير على المدى الطويل. فقد أوضح تقرير أممي حول حادثة تشيرنوبل نشر عام 2005، أنه لئن كان عدد من لقوا حتفهم فوراً في عام 1986 هو 31 شخصاً، فإن عدد من اكتشفت إصابتهم بأمراض "اللوكيميا" وسرطان الغدد مع مرور الوقت بلغ نحو 4000 شخص، ولاسيما في أوساط الأطفال والمراهقين، مع وفاة بعضهم واحتمال وفاة الباقين قريباً. هذا ناهيك عن ثبوت إصابة نحو 60 ألف إنسان بأمراض ومضاعفات صحية أقل خطورة من السرطان. ثانياً - تسرب خلال كارثة تشيرنوبل نحو 50 مليون "كوري" من الإشعاعات النووية، الأمر الذي اضطرت السلطات السوفييتية معه إلى إجلاء نحو 125 ألف مواطن فوراً من المنطقة المنكوبة إلى مناطق تبعد مسافة 30 كيلومتراً، وإجلاء نحو ربع مليون نسمة آخر في وقت لاحق إلى أماكن أبعد. ثالثاً - كلفت حادثة تشيرنوبل جمهوريات روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا فقط عدة بلايين من الدولارات في صورة إعانات اجتماعية لنحو 7 ملايين من البشر ممن تأثرت مساكنهم وأعمالهم وأنشطتهم بالحادث بصورة من الصور. رابعاً - نسبة كبيرة ممن تم تهجيرهم من مناطقهم إلى مناطق جديدة بفعل الكارثة النووية لم يتمكنوا من التكيف مع أوضاعهم الجديدة، فتأثر إنتاجهم أو أصيبوا بأمراض نفسية أو قادهم الإحباط و اليأس والوساوس إلى الإدمان على الكحول والمخدرات. خامساً - تحولت مناطق شاسعة من الأراضي إلى أماكن غير صالحة للسكن أو الزراعة أو الاستعمالات الأخرى لعقود طويلة من الزمن. بل صارت المحاصيل الزراعية المحصودة من المناطق القريبة لمنطقة الكارثة لا تجد من يشتريها أو يستوردها، وبما أدى إلى إفلاس مزارعين كثر وتزايد عدد العاطلين عن العمل. سادساً - تلوثت مياه الأنهار والبحيرات القريبة بالإشعاعات النووية وصارت مياهها وثرواتها السمكية وأحياؤها الأخرى غير صالحة للاستعمال الآدمي، الأمر الذي حدا بالسلطات المحلية إلى بذل جهود كبيرة وإنفاق أموال طائلة لتقييد استخدامات مياه وثروات تلك الأنهار والبحيرات وتوفير البدائل. بل إن السلطات في دول مجاورة كفنلندا أو دول قريبة كالسويد عمدت إلى فعل الشيء نفسه، فيما يخص أنهارها وبحيراتها من باب الاحتياط. وأخيراً فإنه حتى لو افترضنا جدلاً أن إيران تتمتع بإمكانيات وخبرات لا نعرفها، تحول دون وقوع حوادث على شاكلة تشيرنوبل، فإن مسألة التخلص من نفايات مفاعلاتها النووية أمر سيكبدها لا محالة بلايين الدولارات من المال العام، التي لو أنفقت على تحسين معيشة شعبها، لكان أجدى وأنفع. وتكفينا في هذا السياق الإشارة إلى أن تكاليف التخلص من النفايات النووية في دولة كبريطانيا تجاوزت 130 بليون دولار حتى الآن. وخلاصة القول إن الخسائر المرتبطة بالمشاريع النووية كثيرة وجسيمة، وتشمل المخاطر العسكرية والتكاليف الاقتصادية الخيالية والأمراض السرطانية والنفسية وغير ذلك، مما لا يذكر كحقائق للناس في معرض الدفاع عن الطموح النووي، والولع بالقوة والشغف بالعنتريات والاستسلام للعواطف وشعارات العداء للغرب من تلك التي تأسر بعض الساسة والمفكرين والإعلاميين في عالمنا العربي، فتعميهم عن قول كلمة حق وصدق حول أضرار ومخاطر البرنامج النووي الإيراني على حياة ومستقبل أشقائهم العرب في الخليج.