كثيراً ما تحمل الأحداث الشخصية، لاسيما الوفيات، دلالات رمزية أعرض منها ومن أصحابها. ومن هذا القبيل يمكن القول إن رحيل السياسي التركي بولند أجاويد نمَّ، وينمُّ، عن تحوّل يطاول تركيا بل يتعدّاها إلى عموم منطقتنا. طبعاً، هذا الحدث يبدو أقلّ أهميّة بكثير من أحداث أخرى تتصدّر العناوين والمانشيتات، وتترك تأثيراتها الحادّة والمباشرة على حياتنا اليوميّة، شأن انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة، أو عودة "دانيال أورتيغا" إلى قمّة السلطة في نيكاراغوا، أو الهجوم الإسرائيلي المتمادي على غزّة، أو إصدار حكم الموت على صدّام حسين. مع هذا فالحدث الذي نحن في صدده يطاول مجاري وتيّارات عريضة يمكن تلمّس معانيها على نحو غير مباشر. فهي، من ثمَّ، أشبه بعلامات الزمن الذي نعيش فيه ونخضع لاتّجاهاته. يزيد في معناه أن رحيل بولند أجاويد عن هذه الدنيا جاء متزامناً مع تعاظم التكهّنات حول احتمال لجوء الجيش التركيّ إلى انقلاب عسكريّ يضع حداً لحكم "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي. وثمّة غير مراقب يؤكّد اليوم على هذا الاحتمال وينظر بريبة إلى كلّ ما يصدر عن المؤسّسة العسكريّة والقوى الحديثة التي تراهن عليها في المجتمع المدنيّ. لقد مثّل أجاويد، "الفارس الأسمر"، حسب اللقب الذي أعطي له، وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، نموذجاً مشخّصاً عن السياسيّ الحديث. فكان، بهذا، ثمرة من ثمار التغيّر الذي أحدثته الأتاتوركية في بلدها قبل أن يتيح العسكر للسياسيّين أن يرثوا إدارة الحياة العامّة هناك. وكما هو معروف، كان أجاويد من غلاة الساسة الجمهوريّين العلمانيّين، بقدر ما كان يساريّاً معتدلاً، دخل إلى السياسة من باب الصحافة التي بقي فيها طويلاً، وليس من الأبواب التقليدية لملكيّة الأرض أو الانتماء إلى إحدى طبقات الثراء والجاه القديم. ولئن تولّى رئاسة الحكومة خمس مرات فإن طبيعته النضاليّة تسبّبت له بالسجن ثلاث مرات، خصوصاً أنه اشتهر، بين ما اشتهر به، بحدّة عدائه لتدخل العسكريّين في السياسة عموماً ولانقلاب 1980 تحديداً، لاسيما الممارسات العسكرية التي ترتّبت على الانقلاب وامتدّت على مدى العقد التالي. وبقي أجاويد اسماً مثيراً للسجالات والانقسامات، مثلما ظلّت مواقفه آية على تغليب الاعتبارات البراغماتيّة على تلك الإيديولوجية: فاليسار الأمميّ المتطرّف اعتبره وطنيّاً أكثر من اللزوم وسخر مما سمّاه تشدّده القوميّ، والمؤيّدون للولايات المتحدة والغرب من دون تحفّظات أزعجهم اصطدامه بواشنطن حينما طلبت وقف زراعة الخشخاش في بلاده في السبعينيات، فردّ أجاويد بأن عملاً كهذا يدمّر حياة مئات آلاف المزارعين والعمال. والإسلاميون دانوا نزعته العلمانيّة التي رأوها متزمّتة وجامدة، إلا أن بعض العلمانيّين المتزمّتين هالهم ائتلافه الحكوميّ مع الإسلامي نجم الدين أربكان، زعيم حزب "الرفاه"، أواسط السبعينيات. والعسكر كرهه تبعاً لجذريّة رفضه التدخّل العسكريّ في السياسة، غير أن نقّاده اعتبروا احتلاله شمال قبرص عام 1974 تنفيذاً لأجندة وضعها الجيش. واليمين اعترض على السياسة الاقتصاديّة لآخر حكوماته واصفاً إياها بأنها مجرّد "إنفاق موسّع ومُبدّد"، لكن اليسار عاد وانتقد رضوخه لشروط صندوق النقد الدوليّ بعد الأزمة التي ضربت البلد في 2001 وقبوله فرض الصندوق وزير اقتصاد يعيش في واشنطن، هو كمال درويش، على حكومته. والمتحمّسون لأوروبا أزعجهم رفضه عرض السوق الأوروبيّة المشتركة، عام 1977، الانضمام إليها، مع اليونان، من دون شروط، إذ استهجن أجاويد أن تصير تركيا مجرد سوق لمجموعة من الدول الصناعيّة المتقدّمة. بيد أن المتشكّكين بأوروبا أزعجهم توقيعه، أواخر عام 2000، على وثيقة ترشيح تركيا إلى عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ. وإلى هذا جميعاً، استاء العسكريّون والقوميّون من أن تركيا، في عهد حكومته، أسقطت حكم الإعدام من قانون العقوبات الذي تعتمده. وفي المقابل، استاء بعض جماعات حقوق الإنسان من اعتقال حكومته زعيم حزب العمال الكردستانيّ عبدالله أوجلان عام 1999. وهو لئن واكب السياسات الغربيّة في المنطقة وعمل على التوافق معها، فذلك ما لم يمنعه من تأييد القضية الفلسطينيّة بحماسة والسعي إلى إقامة سفارة فلسطينيّة في أنقرة، والتي افتتحت في 1978، أو من معارضة المشاركة في حرب العراق في وقت لاحق. واقع الأمر أن حياة أجاويد، الأتاتوركي المناهض للجيش، تبقى عيّنة باهرة على ضعف الإيدولوجيا في السياسة. وهذا بالضبط، ما انكمش وضمر مع الاستقطابات الحادّة التي أثارها صعود الإسلام السياسيّ في بلاده كما في غيرها. وفي المعنى هذا بدا مدهشاً أن حزب أجاويد، "الحزب الديمقراطي اليساريّ"، لم ينلْ ولو مقعداً واحداً في الانتخابات العامّة التي أجريت عام 2002. ذاك أن رقعة الحياة السياسيّة الديمقراطيّة والمتّسمة بالمرونة البراغماتيّة شرعت تضيق وتتقلّص ما بين تعاظم النفوذ الأصوليّ وميل الجيش إلى تعطيل السياسة بهدف تخليصها من النفوذ المذكور. وتحت وطأة الاستقطاب المشار إليه انتهى، على ما يبدو، زمن زعماء وسياسيّين كأجاويد. فمنطقتنا وتراثها (أو بالأحرى تراثاتها) تكشّفت عن تقليدين قويّين وتقليد عاجز وشكليّ القوّة. أما التقليدان القويّان فالإسلاميّ والعسكريّ، أوّلهما يستمدّ سطوته من الماضي والمقدّس، والثاني يستمدّها من اتجاهات التحديث وسط الرفض الشعبيّ لها، ومن ثمّ الاضطرار إلى فرضها بالقمع والقسر. لكن التقليد السياسيّ الديمقراطيّ عانى نواقص وقصوراً تكمن عناصره في المنطقة وتاريخها أكثر مما تكمن في التقليد ذاته. ذاك أن هذا الأخير دفع تكلفة الصدام بين الغرب، وهو مهد التجربة السياسيّة والديمقراطيّة الحديثة، وبين شعوب المنطقة، إما بسبب الاستعمار، أو بسبب فلسطين وإسرائيل، ودائماً بسبب الدفاع عن المعهود والمألوف الثقافيّين قياساً بقيم غربيّة وافدة أثارت الاشتباه لديه. ولمّا استحال على منطقتنا تطوير نظريّة زمنيّة للشرعيّة السياسيّة ظلّت الأنظمة تنشأ أو تسقط بحجج دينيّة أو شبه دينيّة، فيقال، مثلاً، عن الحاكم الصالح إنه "حبيب الله" وعن الحاكم السيئ إنه "عدوّ الله". هكذا بقي العسكريّون وحدهم من يستطيع أن يعطّل مساراً كهذا فيستأصل السياسة برمّتها حين ينوي تحريرها من تأثيرات الدين. والحال أن هذا المسار عرف لحظتين عابرتين تبدوان مخالفتين للمنطق المشار إليه: ففي مطالع القرن العشرين، ومع تصدّي النُخب التي درست في الخارج، أو تلقّت تعليماً غربيّاً، للشأن السياسيّ، بدا كأن طبقة جديدة من القادة في طريقها إلى صدارة المجتمع. بيد أن هذا المسار ما لبثت أن قطعته الانقلابات العسكريّة التي ابتدأها العراق في 1936 و1941، لتنتقل إلى سوريا في 1949 ومصر في 1952. أما اللحظة الثانية فعرفتها، في بعض البلدان، فترة الحرب الباردة. صحيح أن هذه الأخيرة ترافقت مع اعتماد الانقلاب العسكريّ كأداة للتغيير على نطاق واسع، بيد أنها، ولضرورات التوازن الدوليّ، أبقت على بعض معالم الحياة السياسيّة، على ما كانته حال لبنان مثلاً. وعلى امتداد تلك الحقبة استطاعت النخبة العسكريّة الأتاتوركيّة أن تنتهج طريقاً وسطاً: فهي أتاحت المجال لحياة سياسيّة نسبيّة هي التي برز بولند أجاويد في غضونها. غير أنها في خوفها من أن يؤدّي التطرّف، اليساريّ قبلاً ثم الإسلاميّ، إلى جرف المجتمع وسياسته، تدخّلت، عبر الانقلاب العسكريّ، لحراسة تلك الحياة السياسيّة. وفي المعنى هذا، رأينا المؤسّسة العسكريّة في أنقرة تنفّذ في 1960 حكم الإعدام بسياسيّ هو عدنان مندريس في انقلابها الأول الذي ألحقته بعد عشر سنوات بانقلاب ثانٍ، ثم بانقلاب ثالث بعد عشر سنوات أخرى. وهكذا، ومثلما يسعنا القول إن قادة مدنيّين كأجاويد وسليمان ديميريل وتورغوت أوزال سيطروا على المسرح السياسيّ لبلادهم، يمكننا القول أيضاً إن قادة عسكريّين كجمال غورسيل وكنعان أفرين لعبوا أدواراً في حياة الأمّة التركيّة لا تقلّ عن تلك التي لعبها المدنيّون. وعلى العموم، يبدو هذا كلّه من الماضي الذي يرحل مع رحيل جثّة أجاويد. فالسياسيّ لن يعود، في أغلب الظنّ، إلى الصدارة تاركاً إياها للجنرال والشيخ وحدهما. فكأنّما وفاة الزعيم المدني التركي إشارة إلى انسداد درب السياسة في هذه المنطقة من العالم لصالح أحد "الحلَّين" الأصولي والعسكري.