كثرت المؤتمرات المحلية والدولية عن الإسلام والمسلمين منذ الثورة الإيرانية في فبراير 1979. وتوالت بإيقاع أسرع منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأصبحت المؤلفات عن الإسلام سريعة البيع والنفاد في طبعات متعددة. والكل يريد أن يعرف ما هذا الإسلام الذي يهدد أوروبا، هوية وشعباً وأرضاً؟ وذاعت حوادث الحجاب بين التحريم والإباحة. وازداد التهكُّم على المقدسات الإسلامية في الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية وفي الأفلام. وزاد المتخصصون في الإسلام، وانتشروا في كل مكان، أكاديميين وصحفيين وهواة. وزادت المكافآت في أجهزة الإعلام. فالحديث الإعلامي عن الإسلام أربح من البحث العلمي الرصين، دقائق معدودات في مقابل عشرات السنين من البحث العلمي الرصين. فكيف يتحدث المثقف الغربي عن الإسلام في المؤتمرات الدولية؟ الإسلام سلعة رائجة في أجهزة الإعلام ولدى الجمهور. والمتحدث عنه نجم في سماء الفكر. يعرف الحقيقة الخافية على الناس وعلى أصحاب القرار. لا يعرف العربية ويتحدث عن الإسلام وكأنه قرأ أصوله في القرآن والسُّنة وتراثه في شتى أنحاء العلوم الإسلامية. ويصدر الأحكام وهو غير عالم بمظانها. وهو غير متخصص. لم يدرس في أحد أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الأجنبية المحلية أو الإقليمية أو الدولية. هو صحفي، دبلوماسي، تاجر، رحالة، سائح، هاوٍ، شرطي أو جندي، وزير أو مسؤول، موظف أو ملحق دبلوماسي. وفي أحسن الأحوال جامعي درس التاريخ أو الاجتماع. عاش في الوطن العربي، ملحقاً بإحدى الشركات أو السفارات. وقد يكون طالب دراسات عليا يعد رسالته للماجستير أو الدكتوراه. فأينع قبل الأوان. له مؤلفاته عن الإسلام عن طريق السياحة الثقافية والمقابلات مع الكتاب والمفكرين بحجة المقابلة المعمَّقة والتجارب المعيشة. ويأخذ العلم شفاهاً من الأفواه بعد أن عجز عن الاطلاع على المصادر والمراجع، وقضاء الساعات الطوال في المكتبات العامة للبحث والفحص والتحليل. فالصحيفة تريد منه مقالاً في أسبوع. يلتقط المعلومات من هنا وهناك، ويقتات على موائد الغير. وهو سريع الانتشار في أجهزة الإعلام. وقته مملوء بالمقابلات والأحاديث والاستشارات. وهو خبير لدى الشركات الكبرى والبنوك التي لها فروع في العالم الإسلامي ليحذرها حين الخطر وقبل فوات الأوان. كما أنه مستشار لدى الأحزاب السياسية أو البرلمانات ومجالس النواب والشيوخ أو حتى جماعات الضغط. يطلق الأحكام المُطلقة دون برهان هنا وهناك. هو كثير الدهشة، يفتح العينين والفم. يهدد ويتوعد، وينذر ويحذر من خطورة "الصحوة الإسلامية" بعد أن أُخذ الغرب على غرة باندلاع الثورة في إيران وهي واحة أمان بالنسبة للغرب، ووقوع حوادث الحادي عشر من سبتمبر فجأة حتى شلت قوى أكبر دولة في العالم، ولم تستطع الدفاع عن نفسها، مع أنه يعترف أمام المشاهدين أو الحاضرين بأنه لم يدرس الموضوع، وبأنه يريد أن يسمع أولاً قبل أن يدلي بدلوه حتى يقتات على فتات الآخرين، ويفكر على تفكيرهم كالنبات المتسلِّق. ويفعل ذلك من أجل تثقيف ذاته، وتنمية قدراته، وتدريب نفسه على الحوار مع المسلمين، والحديث عن الإسلام. يقول الكل ولا شيء. وينسج خطاباً يدور حول نفسه. لا يخرج إلى عالم، ولا يشير إلى شيء. ويسقط من عالمه ومن ثقافته على الإسلام الكثير بدعوى المقارنة ومعرفة الآخر عن طريق الإحالة إلى الذات. ويسقط كثيراً من تربيته وثقافته وأحكامه الشائعة وصوره النمطية على الإسلام. فيخرج إسلاماً مشوهاً لا صلة له بالإسلام الفعلي، إسلاماً من صنعه وتركيبه وخياله وليس من واقع المسلمين ولا أصول الإسلام، وكما بيَّن ذلك باقتدار إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق". يثير مسائل وهمية من ذهنه لا وجود لها في أرض الواقع مثل الصلة بين الدين والسياسة، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، بين الدين والدولة، بين الدين والعلمانية، بين الدين والتقدم. وهو لا يعلم أن ذلك من تاريخ المسيحية الغربية وليس من الإسلام في شيء. فلا يوجد في الإسلام إشكال بين الدين والسياسة. ولا توجد سلطة دينية أساساً كالكنيسة بل السلطة مدنية مختارة من الناس عن طريق البيعة أي الانتخاب الطبيعي الحر. والشريعة تقوم على تحقيق المصالح العامة وهي الضروريات الخمس: الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال. وهي أمور فيها الدين والعلمانية في آن واحد. والناس أعلم بشؤون دنياهم. وخير الناس أنفعهم للناس. والإسلام أتى لإعمار الأرض. وإذا أتى أحد ملك الموت وفي يده فسيلة فليغرسها حتى يترك الأرض خضراء وليست صفراء قاحلة. فالمسائل من داخل ذهن المستشرق المبتدئ، ومن تاريخ المسيحية في الغرب، والإجابة عليها تأتي إسقاطاً بعد أن يعرض الإسلام على مرآته وفي إطاره المرجعي. وهو غير قادر على الخروج من حضارته وبنية ثقافته ليضع نفسه في منظور الآخر، ولفهم البدائل الحضارية المختلفة عن اختياره الحضاري. ومن ثم لا يقدر على فهم سؤال يوضع له لأنه لا يمتلك الموضوع الذي يجيب منه بل يقيس الإجابة على ما يعرفه من حضارته من قبل. والنموذج واحد وهو النموذج الغربي. ما اتفق معه كان صحيحاً. وما خالفه كان خاطئاً. وتتحول الإجابة إلى توزيع الاتهامات في حالة المخالفة، والحكم بالتخلف والخلط على الحضارة الإسلامية مثل تخلف الحضارات الشرقية وخلطها بين الحياة الروحية والحياة المادية، بين الحياة الأبدية والحياة الزمنية، بين الآخرة والدنيا. فالمستشرق المبتدئ تعوَّد على نموذج واحد هو "أعطِ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". وهو الشعار الذي تحول في الممارسة إلى "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لقيصر". ويضع المثقف الغربي الإسلام كله في سلة واحدة، لا تمييز فيه بين مدارسه المختلفة، بين عقلانية وإيمانية، بين نصية ومصلحية، بين برهانية وصوفية. كما يضع الغرب أيضاً في سلة واحدة لا تمايز فيه بين الاتجاهات والمدارس والمناهج المختلفة. فيقارن كلاً بكل أو جزءاً بكل أو كلاً بجزء فيخطئ في الأحكام. ويكون أشبه بالداعية والمبشر والخطيب الذي يهمه إثارة انتباه المستمعين وجذب انتباه الحاضرين. وهو سعيد بنفسه، مكتفٍ بذاته، يحمل العلم كله، ويعرف الحقيقة بأكملها مثل الأصولي الإسلامي الذي يتحدث عنه ويحذر منه. يتقرَّب إليه صغار الباحثين العرب من المهاجرين الجدد. فهو صاحب حظوة في مراكز الإعلام، وصاحب سلطة في مراكز البحث العلمي. لعله يجد لهم عملاً في صحافته أو مراكز أبحاثه. ويستغلهم هو في جمع المادة العلمية له. إذ يحسنون اللغة العربية أو الفارسية أو التركية، ويمدونه بمادتها، ويسهلون له جمعها حتى يقتطف هو ثمارها، ويتباهى بها في المؤتمرات والمنتديات. وقد يستعملهم كمصادر لجمع المعلومات وإيصالها لمراكز اتخاذ القرارات فيما يسمى بالتجسس العلمي من خلال مراكز الأبحاث والعاملين بها من أصحاب البلاد ومن المهاجرين الأجانب. وهم لا يكتمون سراً. ويضرون وهم يحسبون أنهم ينفعون. هذا هو العلم الزائف. وهذه هي الشهرة المزيفة لمن يتصدى للإسلام من المثقفين الغربيين، على الأقل بعضهم وليسوا جلهم، في المؤتمرات الدولية. يزيدون الزيف على الزيف، ويؤكدون الأفكار النمطية، ويكررون الأحكام الخاطئة. فلا يتقدم علم، ولا تتحاور حضارات. وتضيع الإمكانيات، وينقضي العمر، ويأتي الأجل و(لكل أجل كتاب).