لم يكن الحكم بإعدام صدام مفاجأة للكثيرين، ولم يعد مهماً -برأيي- إعدام الرجل وقتله، فالموت هو النهاية، ونهاية صدام حسين البدن تمت يوم ألقي القبض عليه قبل ثلاث سنوات، ولن يغير الشنق من موته البدني شيئاً. ما رافق المحاكمة وأدبياتها، وتبديل قضاتها، ومقتل محاميها، وتزوير بعض شهودها، وتلفيق بعض ادعاءاتها هو المهم في هذه المسألة، الجريمة التي تم اختيارها للمحاكمة لم تتم من أجل العدالة، ولكنها جرت بدافع الانتقام، ولو كانت العدالة دافعها لرتبت الجرائم حسب تسلسلها: جرائمه ضد المعارضة، فجرائمه ضد حزبه، ثم جرائمه ضد إيران، فالجريمة ضد الدجيل، ثم ضد الأكراد (الأنفال وحلبجة)، بعدها ضد الكويت، ضد أهل الجنوب... وهكذا. لكن حكومة إبراهيم الجعفري الطائفية، سارعت إلى التفكير بالانتقام لحزبها وشهدائه بتقديم جريمة الدجيل على ما عداها، ولم تفكر ببناء وطن وطيِّ الصفحات بالترتيب، ولو فعلت، لوجدت نفسها تحاكم صدام حسين على جرائمه ضد رفاقه قبل غيرهم، ولكانت ردود الأفعال الطائفية اليوم على النطق بالحكم مختلفة تماماً. محزن جداً أن يحتفل الشيعة في العراق بالحكم اعتقاداً منهم بأن صدام حسين ارتكب جرائمه ضدهم لأنه سُني، فالأكراد سُنة، وغالبية الكويتيين من السُّنة.. ومحزن جداً في نفس الوقت، أن تكون ردة فعل السُّنة في العراق حزن على الحكم بالإعدام، لأن فيه انتصاراً للشيعة على الرئيس الذي يظنونه سُنياً... الأطراف في العراق اليوم تلقي باللوم على بعضها بعضاً، ولسان حال كل فريق: لولا هذه لما كانت تلك! صدام حسين هو صنيعتنا جميعاً، هو نتاج التخلف والقهر والفكر الطائفي والعشائرية السياسية، وهو من صنع الفضائيات ومرتزقة الثقافة وكتاب الصفراء من الصفحات. إن صدام يسكن فينا جميعاً، يتوزع في عقولنا، ويعشش في أذهاننا، ويبني خلايا من التخلف في ثنايا أفكارنا. الصدامية ثقافة نمارسها كل يوم ضد بعضنا بعضاً، وإن بدرجات متفاوتة، ونكرسها في بيوتنا وفي عقول أطفالنا وجماهيرنا. أنصاف المثقفين يقتاتون على نشر فكر الصدامية، وهم يتنفسون على انتشارها وتفشيها، وحكوماتنا تعاني من درجات حرارة وسخونة الصدامية الثقافية التي جسدها صدام حسين بأبشع وأوضح صورها. الصدامية مستمرة في العراق اليوم من خلال الذبح الطائفي، ومن خلال السجون والمعتقلات التي يمارس فيها التعذيب الوحشي استمرارا لثقافة الصدامية وحفاظا عليها، ومن خلال القيادات العراقية التي تتصارع اليوم على حكم العراق. فلئن زال صدام حسين فالصدامية باقية في أكثر من موقع في القيادات العراقية التي تتكرر على المشهد العراقي الذي يعيشه العراق اليوم.. وصدق من قال: "من خلَّف ما مات". وتستمر الممارسات الصدامية -حتى بعد إعدامه- من خلال الخطف والقتل والمفخخات والتفجيرات الانتحارية التي تلطخ المسرح العراقي اليوم... وكأني بلسان حال العراقي البسيط يردد: "كأنك يا بوزيد ما غزيت". إن من كانوا بالأمس القريب ضحايا التمييز الطائفي، أصبحوا اليوم يمارسون النهج الطائفي نفسه، ومن كانوا ضحايا العنصرية الفاشية من الأكراد اليوم، يمارسون العنصرية الكردية نفسها ضد العرب والتركمان. "شكرا لكم يا سادة" هكذا يردد صدام حسين، وسوف يموت هانئاً بعد أن تأكد بأنكم ستحملون الرسالة الدامية من بعده وستعملون على نشرها وتكريسها بين العراقيين وفي المنطقة كلها. سوف ينفّذ حكم الإعدام في صدام حسين، وسوف تذهب روحه إلى بارئها، وسوف يتحلل جسده وتفنى عظامه وتصبح رميماً، لكن صدام باق بيننا لأننا لم نحكم بالإعدام على الثقافة التي أنتجت صدام، ومن ثم فإن ملايين الصداميين باقون بيننا ما بقيت الثقافة التي أنتجتهم... مطلوب إعدام الثقافة كي نعدم صدام حسين حقاً.