قبل أن أنضم إلى لعبة تبادل التهم التي تجري اليوم إثر الهزيمة المدوية للحزب "الجمهوري"، اسمحوا لي أولاً أن أنخرط في إحدى لحظات التأمل النادرة التي تشرك الحزبين "الديمقراطي" و"الجمهوري" معاً. فقد يقضي الفلاسفة والمتحزبون سنوات عديدة وهم يناقشون ما إذا كان "الديمقراطيون" يستحقون الفوز فعلاً في انتخابات 2006، لكن دعونا نتفق على أن "الجمهوريين" يستحقون الهزيمة التي مني بها حزبهم العتيد. فبسبب تهاونهم والفساد الذي تسرب إلى أركان حزبهم، فضلاً عن انعدام الكفاءة وأدائهم غير المقنع في نظر الأميركيين خسر "الجمهوريون" مجلس النواب في الكونجرس الأميركي الذي يعتبر واسطة عقد الثورة "الجمهورية"، التي هلت على الولايات المتحدة منذ عدة سنوات، ومحرك السياسات "المحافظة" في البلاد مقابل دعاة الحرية الأخلاقية المفرطة في الولايات المتحدة. لم يكن يحتاج "الديمقراطيون" أكثر من 15 مقعداً للسيطرة على مجلس "النواب"، وهو ما نجحوا في تحقيقه على نحو يدعو إلى الإعجاب مخترقين صفوف "الجمهوريين" كما يخترق سكين حاد قطعة الجبن. لقد أصر "الديمقراطيون" على أن تكون الانتخابات استفتاء على الرئيس بوش والحزب "الجمهوري". ورغم الجهود الحثيثة التي بذلها "الجمهوريون" لتحويل الانتخابات إلى مقارنة صادقة بين الحزبين نجح "الديمقراطيون" في تركيز اهتمام الناخبين على أمر واحد فقط هو الحزب "الجمهوري"، وليس الفلسفة الحقيقية التي ينبني عليها. وهكذا تكبد "الجمهوريون" الخسارة الفادحة التي تبدت أمام أعيننا. وفي الواقع تبين أن الاتهامات التي وجهت إلى الحزب "الجمهوري" لم تكن بعيدة عن الحقيقة. فعندما جاء الحزب "الجمهوري" إلى موقع الأغلبية سنة 1994، تعهد بتخفيف سلطة الحكومة وتدخلها، تمشياً مع الفلسفة "المحافظة"، لكن مع مرور الوقت، رأينا كيف بدأ الحزب يفك حزامه تدريجياً، بعد كل وجبة تدفع ثمنها جماعات الضغط. كما أن الحزب الذي كان معروفاً عنه قدرته الفائقة على إدارة الحكومة مثل شركة ناجحة، وتسيير الحروب مثل آلة حديثة انتهت الحكومة في عهده إلى مصلحة خيرية بسبب تدخل "المحافظين" المتحمسين أكثر من المطلوب. أما بالنسبة للحروب السهلة والمرنة، فقد تبين أن آلاتها أثناء حكم الحزب "الجمهوري"، أصبحت معطلة بسبب الرمال المتحركة في العراق. وبالنسبة لـ"الديمقراطيين" يبقى الحل الوحيد هو إعادة نشر القوات الأميركية في العراق وإعادتها إلى أرض الوطن؛ واللافت أن بوش الذي يعتقد، عن حق هذه المرة، أن على الحروب أن تنتهي بالنصر، لم يفلح في إقناع الأميركيين بفكرته، بينما نجح "الديمقراطيون" في تسويق وجهة نظرهم خلال الانتخابات. والآن دعونا نرجع إلى مسألة تبادل التهم وتقاسم المسؤوليات على الأطراف المعنية في المشهد السياسي الأميركي. فقد شرع "المحافظون" في شحذ أسلحتهم قبل شهور عدة ينتظرون الفرصة المناسبة للبدء في أول حرب داخلية خلال الألفية الجديدة. وهكذا يعتبر المتحررون أخلاقياً أن المسؤولية تقع على مذهب المحافظة الاجتماعية الذي طغى على الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، بينما يرى "المحافظون الاجتماعيون" أن أميركا أصبحت أكثر مادية مطالبين بتغيير ذلك. وكل طرف يعتقد أنه يمنح تنازلات كبيرة للطرف الآخر، في الوقت الذي يرى "المعتدلون" وجناح الوسط أن التنازلات، أو التسويات هي ما ينقص المشهد السياسي الأميركي في هذه الفترة، وبالتالي لا ضير في تقديم المزيد منها للوصول إلى حل وسط بين المحافظين من جهة والمتحررين من جهة أخرى. صحيح أن الحرب في العراق التي تشهد تعثراً واضحاً بسبب الصعوبات الكبيرة التي تواجهها القوات الأميركية، لإحلال الأمن والاستقرار، وتحقيق الأهداف المرجوة، إلا أن المسؤول عن ذلك ليس كما يعتقد البعض الفلسفة "المحافظة"، التي لم يكن من عاداتها أبداً إفشال الحروب. وبعكس الانتقادات التي سمعناها خلال السنة الماضية حول أداء الإدارة، فإنني أود أن أوضح أيضاً أنه ليس من عادة "المحافظين" إغراق "نيوأورليانز" أو غيرها بالأعاصير المدمرة. وحتى عندما توجه أصابع الاتهام إلى الإدارة بسبب الفساد والمحسوبية السائدة في وكالاتها، لابد من الإشارة إلى أن "إدموند بروك"، المنظر الرئيسي للفكر "المحافظ "، وأحد مؤسسيه الأوائل، لم يكن الفساد جزءاً من مذهبه. وبعبارة بسيطة ترجع هزيمة الحزب "الجمهوري"، كما يقر بذلك "الديمقراطيون" أنفسهم، إلى انعدام الكفاءة والأداء السيئ، وليس إلى الأيديولوجية "المحافظة"، أو برنامجها السياسي. والمفارقة أنه لو لم تكن القاعدة الأساسية للحزب "الجمهوري" قد ملت من أسلوب الإدارة الذي اعتمده الحزب، ولو لم يكن "الديمقراطيون" قد تخلوا قليلاً عن بعض مبادئهم التحررية واقتربوا من المحافظين اجتماعياً لما تفوقوا على الحزب "الجمهوري" في الانتخابات الأخيرة. فقد خسر "الجمهوريون" الانتخابات لأنهم تصرفوا مثل سياسيين من دون ضمير، هزتهم الفضائح وانعدام الكفاءة، وليس لأنهم أبرياء متطهرون. لذا فإن من يستحق اللوم ليس "المحافظين" ولا الأفكار والمبادئ التي يتبنونها، بل يستحقه "الجمهوريون" الذين خانوا تلك الأفكار والمبادئ. جونا جولدنبيرج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"