نشر الكاتب الإسرائيلي "رونى بن إفرات" مقالاً بعنوان "أول حرب في مرحلة ما بعد الصهيونية" (موقع تشالنج الإلكتروني www.challenge-mag.com العدد 95 سبتمبر-أكتوبر 2006) يقول فيه إن الحرب تكشف شخصية المجتمع، فماذا كشفت له الحرب السادسة؟ يقول الكاتب إنه بعد ثلاثة أسابيع من وقف إطلاق النار، يمكن وصف الوضع السياسي في إسرائيل على أنه "السقوط الوشيك". الإسرائيليون يعيشون الآن إحساساً بالفشل ويبحثون عن سبب "المحدال" -أي التقصير (وهو اصطلاح استخدم بعد كارثة أكتوبر 1973)– الذي تسبب في كشف ضعف إسرائيل العميق. ومما لاشك فيه أن الدولة التي أثارت كراهية جيرانها الشديدة لها لعقود عديدة لا يمكن أن تحتمل كشف ضعفها. لقد أرادت هذه الدولة في استعراض للقوة أن تثبت أنها في حربها ضد لبنان تستخدم جزءاً من قوتها التدميرية وحسب، فقصفت لبنان بجنون. ولكن مرت الأسابيع، واستمر سقوط الصواريخ على الجليل، واتضح للجميع أنه لم يكن هناك أي تأثير ملموس على قدرة "حزب الله" في تعطيل الحياة في إسرائيل كما اتضح أن القوة الجوية ليست كافية، وأنه كلما ازداد التزام إسرائيل بالقوة الجوية، كلما تجلى ضعفها. لقد ظهر أن الطائرات بوسعها القصف والقتل وهي بعيدة عن مرمى الخطر، أما بالنسبة لقوات المشاة، هذا الجزء الحيوي من قوة إسرائيل التدميرية، فالأمر جد مختلف. ولكن القيادة لم تشأ استخدامها بسبب الخوف من خسائر المعركة، الأمر الذي بيَّن رخاوة الجيش الإسرائيلي. وعندما قررت القيادة في نهاية الأمر استخدامها كان ذلك بشكل استعراضي، مجرد مناورة، سيئة التخطيط والتنفيذ. وظهر أن الإمبراطور لم يكن عارياً تماماً، ولكنه لم يكن يرتدي ما يكفي من ملابس (هذه إشارة إلى قصة هانز كريستيان أندرسون الإمبراطور الذي خدعه بعض المحتالين ونسجوا له ثوباً ادعوا أنه لا يراه إلا من كان صادقاً وهو في واقع الأمر لم يكن له وجود. وحيث إن الإمبراطور وكل بطانته وبلاطه لا يريدون أن يتهموا بعدم الصدق، فقد ادعوا أن الثوب الذي ليس له وجود والذي كان يرتديه الإمبراطور في غاية الجمال. وخرج الإمبراطور ليتباهى بردائه، وكان الجميع يعبرون عن إعجابهم بالرداء خشية أن يتهموا بعدم الصدق، إلى أن صاح طفل: "إن الإمبراطور عار وقبيح الشكل"). ويضيف الكاتب أن الإسرائيليين أثبتوا عجزهم عن القضاء على حركة مقاومة صغيرة، مشبعة بفضائل الشهادة، وذلك بسبب ترددهم في مجابهة الموت. ثم يحاول الكاتب تفسير هذا التردد، فيقول إنه نابع من انهيار الروح الجماعية collective اليهودية الإسرائيلية، وقد انهارت هذه الروح لأن المجتمع الإسرائيلي خاض تغيراً ضخماً في بعض القيم الأساسية، وقد تحول من الصهيونية إلى ما يمكن تسميته ما بعد – الصهيونية. ثم يبدأ في شرح أسباب هذا التحول، فيدخل في العمق الإسرائيلي، فيبين أن تأسيس الدولة اليهودية كان هو أولى الأولويات بالنسبة للمستوطنين الصهاينة ولذا كانت مصلحة الجماعة تأتي في المقدمة. ولكن الأمور انقلبت رأساً على عقب، فتحقيق الذات الفردية أصبحت له الأسبقية على مصلحة الجماعة. ثم يعطي الكاتب تاريخ هذا التحول فيرى أن انهيار الروح الجماعية بدأ مع النصر المسموم في 1967، الذي أدى إلى استقطاب المجتمع. وكما أبين في كثير من دراساتي أن الشره الاستهلاكي الذي كان مُرجأً في مرحلة التأسيس، تآكل تماماً مع "انتصار" 1967. ثم يضيف الكاتب أن خطة التوازن الاقتصادي في عام 1985 أي خطة الخصخصة والانفتاح والانخراط في السوق العالمية ورفض مفهوم دولة الرفاه بكل ما تحمله من ضمانات اجتماعية واقتصادية للمعوزين، هذه الخطة عمّقت من الاستقطاب الطبقي وتصاعد النزعة الاستهلاكية والتوجه نحو اللذة وتحقيق الذات. يرى الكاتب أنه قبل ذلك التاريخ كانت إسرائيل، بالنسبة لليهود على الأقل، تقريباً دولة رفاه اجتماعي، تتسم بقدر عالٍ من المساواة. فحتى عام 1985 كان دخل خمس السكان الأكثر ثراء يزيد 3 مرات وحسب على دخل بقية السكان الأفقر. أما الآن وكنتيجة لإجراءات الخطة الاقتصادية يحوز الخمس الأكثر ثراء على 21 مرة أكثر مما يحوزه الأكثر فقراً، وحين تتسع الفجوات (الطبقية والاجتماعية)، لا يمكن للمرء أن يتوقع التلاحم والتضامن الاجتماعي. إن الخصخصة سادت في المجتمع الصهيوني، وتم تهميش التنظيمات العمالية وحلت محلها عقود شخصية وشركات توظيف وعمال مهاجرون. كما تم تخفيض التعريفة الحمائية أو إزالتها وهاجرت صناعات العمالة الكثيفة إلى العالم الثالث، بينما استقرت الصناعات التكنولوجية في الداخل، بإيجاز أصبحت إسرائيل جزءاً من الاقتصاد العالمي. كما تمت خصخصة المجتمع الصهيوني، فبيعت الشركات الحكومية (القطاع العام) إلى مستثمرين (غالباً بأثمان أقل من قيمتها الفعلية). والخصخصة تعني أن نقطة البدء هي الفرد وليس المجتمع، وأن المشروع الفردي يسبق المشروع القومي. ومثل هذا الموقف يزيد بغير شك حدة السعار الاستهلاكي. وللخصخصة أعمق الأثر في المجتمع الصهيوني، فهو تجمع استيطاني لابد أن ينظم نفسه تنظيماً جماعياً ليضمن لنفسه البقاء والاستمرار أمام مقاومة أصحاب الأرض. ولاشك أن كون المجتمع الصهيوني مجتمع مهاجرين يعني أن هناك دائماً جماعات بشرية جديدة تفد على المجتمع وتصعد من سعاره الاستهلاكي. وفي هذا الإطار ولدت الحساسية الجديدة لدى الشباب الإسرائيلي، فهو -على حد قول المعلق السياسي الإسرائيلي "يوئيل ماركوس"- لا يفكر إلا في ذاته. والأيديولوجية الصهيونية لا تعني الكثير بالنسبة له، فهو منخرط في حياته اليومية وفي مجتمعه المُترف الذي لم تشهده إسرائيل في أي وقت سابق. لقد أصبحت النزعة الفردية وكذلك النزعة المادية هما المسيطرتان على المجتمع الإسرائيلي. وتحولت إسرائيل من بلد كان يقدس الجماعية إلى بلد يقدس الفردية، ومن بلد تتحد كل صفوفه لتطبيق المشروع الصهيوني، إلى بلد تغذيه الفردية والمادية من كل جانب. ويتضح هذا التغير في مؤسسة "الكيبوتس"، هذه المؤسسة الجمعية (الاشتراكية). في واقع الأمر لا يكاد يوجد أي "كيبوتس" حقيقي إذا ما ابتغينا الدقة فمعظمها تمت خصخصته. فالدخل الأساسي لأعضاء "الكيبوتس"، يأتي من مؤسسات تجارية متعددة تأسست على "الكيبوتس" الأصلي. وقد لاحظ أحد المراقبين أن رغبة سكان "الكيبوتس" في الخدمة العسكرية لم تتغير، ولكنه يلاحظ أيضاً أن ثمة تراجعاً ملحوظاً في الرغبة في الاضطلاع بمهام قيادية أو العمل بالجيش. ويجدر ملاحظة أن قيادات الجيش الإسرائيلي كانت في الماضي كلها خريجة "الكيبوتس". والسر في هذا التراجع هو شعور المستوطن الصهيوني (بعد 1967) أن تحقيق الذات لا يمكن أن يتم في إطار الخدمة العسكرية ("خريطة الحرمان قد تغيرت" ليائير شيلج هآرتس 27 أغسطس 2006). لكل هذا تراجع نموذج "الكيبوتسنيك"، وهو (عضو الكيبوتس، المتقشف المحارب) وظهر نموذج "الروس قطان"، أي المواطن ذو الرأس الصغير والمعدة الكبيرة، الاستهلاكي الرخو وظهر مجتمع "الثلاثة في V": الفولفو والفيديو والفيلا. وقد علق أحد المعلقين الإسرائيليين على هذا الاتجاه في المجتمع الإسرائيلي بقوله إن الإسرائيليين يعيشون مثل الأميركان (أي على مستوى عاٍل للغاية)، وينفقون مثل الإيطاليين (أي بإسراف شديد) ويعملون مثل مواطني أميركا اللاتينية (أي لا يعملون) ويقودون السيارات مثل المصريين (أي كالمجانين). والله أعلم.