زلزال الانتخابات التشريعية الأميركية، لم يكن بلا توابع أو ردات مدوية! فمن جرائه سقط وجه من "المحافظين الجدد" وأحد صقور الإدارة الجمهورية ورمز من رموز الحرب على الإرهاب وغزو العراق... وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي يعد أشهر من شغلوا هذا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة. لم ينل رامسفيلد شهرته باعتبار السنوات الخمس التي أمضاها على رأس البنتاغون، بعد أن قاده بين عامي 1975 و1977 في عهد الرئيس جيرالد فورد، ولكن بما رافق مأموريته الثانية من أحداث مثيرة ومدوية. وعلى تلك الخلفية نفسها، أطاحت به نتائج التجديد النصفي للكونغرس، والتي خسرها "الحزب الجمهوري" لصالح "الديمقراطيين" يوم الأربعاء الماضي، حيث أعلن الرئيس جورج بوش بعد ساعات من هزيمة حزبه، "قبول استقالة" رامسفيلد، وتعيين روبرت غيتس خلفاً له في ذلك المنصب. هكذا يبدو أن الرئيس بوش استمع إلى نصائح والده، فجيمس بيكر الذي كان وزيراً للخارجية في إدارة بوش الأب، يترأس الآن مجموعة للتفكير حول العراق، أما روبرت غيتس، وهو عضو في المجموعة المذكورة، فقد وقع عليه الاختيار لإدارة المنصب الذي استقطب أوسع جدل في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة. ولعل المهمة الأكثر أولوية أمام وزير الدفاع الجديد، هي معالجة الوضع الأميركي في العراق، آخذاً في اعتباره حقيقة أن الانتخابات النصفية الأخيرة للكونغرس، كانت بمثابة استفتاء على سياسة بوش في العراق، وهي السياسة التي تحولت إلى سلاح فعال بيد "الديمقراطيين"، إذ ساعد إحباط الناخب الأميركي بشأن العراق، على إلحاق هزيمة بـ"الجمهوريين". فماذا يمكن لغيتس القيام به اتجاه العراق؟ وهل يملك خبرة مهنية كافية للتعامل مع وضع أخفق الوزير المخضرم رامسفيلد، في معالجته؟ لاشك أن غيتس يدرك أمرين أساسيين: أولهما الوضع العراقي الذي بات يخرج تدريجياً عن السيطرة وبوتيرة متسارعة، حيث تتجه بلاد الرافدين نحو حرب أهلية، ربما دخلت أطوارها الأولى مبكراً. الأمر الثاني هو محدودية الخيارات الممكنة للتعامل مع "المستنقع العراقي" وإدارة الوجود الأميركي في غابة من التحديات والمخاطر. وعلى ضوء ذلك فإن الاستمرار في النهج الذي اختطه رامسفيلد وبوش، لم يعد محتملاً أو مطروحاً للمناقشة بعد فوز "الحزب الديمقراطي" بغالبية مقاعد الهيئة التشريعية، بينما لم تحظ فكرة الخروج الفوري من العراق بعدد كافٍ من المؤيدين في الكونغرس حتى الآن. فمن أين لغيتس حل معضلة كونها رامسفيلد ورهطه من "المحافظين الجدد"، ثم انصرفوا واحداً بعد الآخر؟ على كل حال ينظر إلى روبرت غيتس، بسبب ميله إلى البحث عن التوافق والحلول البراغماتية، على أنه نقيض لرامسفيلد. كما يختلف عن سلفه الذي اتسم أسلوبه بعمى أيديولوجي وإيمان مطلق بالقوة، مما أدى في نهاية المطاف إلى هزيمة المشروع الأميركي في العراق، ثم الهزيمة الانتخابية لـ"الجمهوريين". لكن غيتس هو أيضاً أحد خريجي "مدرسة الحرب الباردة"، حيث التحق بوكالة الاستخبارات الأميركية "سي، آي، إيه" مباشرة بعد تخرجه من كلية "ويليام أندماري" عام 1965، ثم حصل على الماجستير من جامعة "إنديانا" في العام التالي، وبعد ثماني سنوات نال درجة الدكتوراه عن أطروحة حول الصين والاتحاد السوفييتي. تدرج غيتس في السلم الوظيفي، حتى أصبح أول موظف في الـ"سي، آي، إيه" يصل منصب مدير عام الوكالة، وذلك بين عامي 1991 و1993. إلى ذلك يعد غيتس أحد أبرز المتخصصين في الشؤون الخارجية والدفاعية والاستخبارات الأميركية، إذ شغل وظائف عديدة ذات صلة؛ فقبل أن يباشر عمله في "سي، آي، إيه"، خدم في القوات الجوية الأميركية طوال سنتين، وذلك أثناء الحرب الفيتنامية. كما نقل وهو موظف في وكالة الاستخبارات إلى "مجلس الأمن القومي" التابع للبيت الأبيض عام 1972، ثم عاد إليه في إدارتي الرئيسين جيرالد فورد وجيمي كارتر، وذلك في الفترة بين 1974 و1979. ثم تمت ترقية غيتس، فعمل نائباً لمدير وكالة الاستخبارات بين 1986 و1989، ونائباً لمستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جورج بوش الأب من عام 1989 حتى عام 1991 حين عين مديراً عاماً لـ"السي، آي، إيه". وكان الرئيس رونالد ريغان قد رشحه لذات المنصب عام 1987، لكن الكونغرس الذي كان منزعجاً من دوره المحتمل في فضيحة "إيران كونترا" عطل مشروع قرار التعيين. وحتى بعد أن تقلد غيتس إدارة وكالة الاستخبارات عام 1991، ظل بعض نواب ينعتونه بأنه خادم متحمس لإدارة ريغان. إلا أن غيتس الذي ينتظر الآن تصديقاً من الكونغرس على قرار تعيينه وزيراً للدفاع، قلما ما بدا متهافتاً على المناصب الحكومية العليا، فقد سبق له أن رفض عرضاً من بوش الابن بترؤس الاستخبارات الوطنية في فبراير 2005. ولد روبرت غيتس في ووتشيتا في كانساس عام 1945، وتخرج من مدرستها الثانوية عام 1961، حين كان والده وزيراً للدفاع في إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور. وإذ عمل الدكتور روبرت غيتس مع ست إدارات "ديمقراطية" و"جمهورية"، فإن صداقاته مع "الجمهوريين" اقتصرت على المعتدلين منهم، كما عمل بعد خروجه من إدارة "سي، آي، إيه" في المجال الأكاديمي، وهو يرأس جامعة تكساس (ولاية بوش) منذ عام 2002، حين كان عميد "كلية الحكم والخدمة العامة" في الجامعة ذاتها منذ عام 1999. وباعتبار خلفياته التي تميزه عن سلفه رامسفيلد، فإن غيتس، وقد عرف بجديته وقدرته على الاستماع فضلاً عن مهارته التحليلية، ربما يساهم في كسر الحواجز بين مدنيي وعسكريي البنتاغون، بعدما علت وترسخت منذرة بشل الوزارة التي مثلت حجر الزاوية في مشروع "المحافظين الجدد"! تلك خطوة أولى داخل المبنى البيروقراطي... لكن من أين لروبرت غيتس، وقد أصبح وزير الدفاع الـ22 في تاريخ الولايات المتحدة، أن يبدأ خطوته الأخرى في مهمة تبدو مستحيلة بين مجاري وبرك "المستنقع العراقي"؟! محمد ولد المنى